جدلية الاستبداد والفساد

Cover Image for جدلية الاستبداد والفساد
نشر بتاريخ

يسهب الكثير من الفرقاء السياسيين والمثقفين في الحديث عن الفساد الذي يضرب البلاد على جميع المستويات، وكيف أنه أصبح منظما ومهيكلا، بحيث إنه لا أحد يستطيع أن يمسه بسوء! وقد ضمن لنفسه موطئ قدم في مراكز صناعة القرار، وتمكن من مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية… لكن حينما يتعلق الأمر بالاستبداد السياسي، فإنهم يتحفظون على استعمال هذا التوصيف ويستعيضون عنه بتوصيفات أخرى إما جهلا وبلادة سياسة، وإما مهادنة وطلبا للسلامة… وأيا كانت النوايا فإن السلوك السياسي الرسمي لا يمكن تصنيفه بعيدا عن منظومة الاستبداد. فما الاستبداد وما الفساد وما حقيقة تلازمها؟ وما موقعهما بالمغرب؟

من المعلوم أنه حينما نتكلم عن الاستبداد، فإن اللفظ ينصرف تلقائيا إلى نوع من الحكم الذي يرتكز على احتكار السلطة في يد واحدة، حيث لا فصل بين السلطات ولا معارضة حقيقية ولا إعلام حر ومستقل ولا مجتمع مدني قوي… وكل ما هنالك قائد ملهم وزعيم أوحد وهو أبو الجميع، وتعد الأجهزة الأمنية والمخابراتية في هذه الحالة الوسيلة المثلى لبسط الحكم ومراقبة أحوال البلاد والعباد، وعلى هامشها نجد أحزابا ضعيفة سواء الحاكمة منها أو المعارضة، توظفها السلطة لتسويق وهم التعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة، بالإضافة إلى مجتمع مدني تابع خاضع وإعلام مأجور أو في أحسن الأحوال محاصر مقهور، وكل من سولت له نفسه شق عصا الطاعة وخرق قواعد اللعبة فإنه يعرض نفسه لغضب الحاكم وعقابه!

ولكل حاكم مستبد ملأ وحاشية، وفيهم يتجلى الوجه الأخر للاستبداد، وهو الفساد، حيث يطلق الحاكم أيديهم في شؤون البلاد السياسية والاقتصادية والأمنية التي يديرونها على أساس الزبونية والرشوة والقرابة، وعن طريقهم يتناسل الفساد آخذا طريقه نزولا إلى أصغر موظف في الدولة. وفي هذا السياق يقول إتيين دو لابويسي في كتابه: “العبودية المختارة”: أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه ويشدون البلد كله إلى مقود العبودية، يتقربون أو يقربهم إليه، ليكونوا شركاء جرائمه، وقواد شهوته ولذته…..، وينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية. ثم هؤلاء الستمائة يفسدون معهم ستة آلاف تابع، يوكلون إليهم مناصب الدولة والتصرف في الأموال، …، فإذا الذين ربحوا من الطغيان يعادون في النهاية من يؤثرون الحرية. فما إن يستبد ملك حتى يلتف عليه حثالة المملكة وسقطها، ليصبحوا أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير).

وفي حالة المغرب، وبناء على التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات فإن الفساد يخترق جل القطاعات المهمة في البلاد (فساد في القطاعات السامية، فساد في القطاعات الحكومية، فساد في القطاعات المنتخبة، فساد في الأحزاب…) وإذا كانت هذه النتائج قد توصل إليها مجلس رسمي تابع للدولة وأنشئ أساسا لتزيين صورتها في الداخل والخارج، فهذا يعني فيما يعني أن ما خفي أعظم !

وعلى كل حال، فالجميع يعرف أن الفساد في المغرب أصبح صنعة لها أهلها وحماتها… وهذا التغول للفساد والمفسدين إن دل على شيء فإنما يدل على أننا لسنا في دولة قانون ومؤسسات، وإلا كيف يعجز القضاء عن تحريك المتابعات القضائية ضد من أسماهم المجلس الأعلى للحسابات؟ وأنى له أن يفعل وهو جزء من بنية الاستبداد، ورب قائل يقول إن الدول الديموقراطية هي الأخرى تعرف فسادا، هذا صحيح لكنه محدود في الزمان والمكان، وليس ظاهرة عامة وتيار ممتد، ويتعامل معه بقوة القانون والرأي العام ويفضح أصحابه على رؤوس الأشهاد.

إن المعادلة بسيطة وواضحة، فحيثما وجدت الفساد يصول ويجول ويجلب بخيله ورجله على الناس دون أن يستطيع أحد ردعه فاعلم أنه لا ديموقراطية هنالك، وحيث لا ديموقراطية فثمة استبداد، ولا يغرنك أحد بشعارات مزيفة من قبيل التحول الديموقراطي والانتقال الديموقراطي فلكل منهما شروط و إشارات.

وعليه فإننا نرى أنه ما كان بإمكان الفساد أن يعشش ويفرخ في مأمن تام، لولا بنية الاستبداد الحاضنة والساهرة عليه، وهذا ليس تحاملا أو تطاولا على النظام السياسي في المغرب، ويكفي المرء أن يرجع إلى الدستور الجديد لتبين الحقيقة، باعتباره أسمى وثيقة في البلاد، حيث إن ما منحه الحاكم من صلاحيات لممثلي الشعب بيده اليمنى أخذه بيده اليسرى، فكل طرق السلطة تؤدي إليه كما تتشعب عنه، هذا على مستوى النص الدستوري، أما على مستوى الواقع والسلوك الرسمي، فالخبر ما ترى لا ما تسمع.

ونحن إذْ نقرن الفساد بالاستبداد، فإننا لم نأت ببدعة أو منكر من القول، بل هي النتيجة نفسها التي خلص إليها الكثير من المفكرين والفلاسفة وعلى رأسهم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة والكواكبي في كتابه: “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وصاحب كتاب: “العبودية المختارة”، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاويه قبل سبعة قرون ونيف. إنهما صنوان وحيثما حل أحدهما قال له الآخر خذني معك.

إن الذين يخوضون معارك حامية ضد الفساد بكل أنواعه دون أن يعمدوا إلى أصله وجذوره فيقطعوها أو يحاولوا ذاك عل الأقل، إنما يضيعون جهودهم في معارك خاسرة مسبقا، ولن تلبث حروبهم الدونكيشوتية هاته ضد طواحين المخزن الجبارة، أن تعود عليهم بالوبال والخسران. والأسوء من ذلك كله أنهم يقدمون خدمة جليلة للفساد وهم يمدون في عمره بما يوهمون أنفسهم وغيرهم في الداخل والخارج أن الأزمة في المغرب أزمة حكامة وليست أزمة حكم، و الضربة التي لا تقتل العدو تقويه. فمتى تستوعبون الدرس؟