حرب هنا وهناك، صراع بين دول كما هو بين الجماعات والأفراد، أحقاد تملأ القلوب وضغائن تنغص العلاقات، أنانيات متألهة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وحال كل من تجبر وتسلط ينادي عاليا “أنا ربكم الأعلى”.
من وسط هذا الركام البشري، ومن بين هذا الدخن وهذه النيران التي كادت تأتي على الأخضر واليابس؛ ابتعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، وينتشلها من وحل الكراهية والبغضاء، ليرسخ في قلوب أبنائها معاني المحبة والإخاء التي ما تعلموها في المدارس التي قطعوا جميع أشواطها.
ومن ثم فإنه من تمام المن الإلهي أن اصطفانا المولى الكريم لنكون من أتباع الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمة الله عليه، فنتذوق لذة المحبة والتصافي في مجالس تجمعنا بأناس “ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر” كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه. لا تجمعنا بهم مصالح دنيوية ولا منافع شخصية، بل يربطنا حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حب نتشربه من قلوب المحبين الذين صدقوا في حب مولاهم، فأفاضوه كؤوسا على كل من طلب العلا وتاقت نفسه لنيل أعلى مراتب حب الله.
وإنه للهدف الأسمى الذي وضع من أجله الإمام المجدد رحمة الله عليه مشروع العدل والإحسان؛ إذ إن حب الله وابتغاء رضاه هو الدافع الأساسي الذي جعل الإمام المجدد يجود بالغالي والنفيس ويكرس حياته كلها لتخليص البشرية من عبادة العباد والشهوات إلى عبادة رب العباد، ومن الفرقة والتمزق والكراهية إلى الأخوة والتضامن والمحبة، وذلك بالسعي لتحقيق الخلافة على منهاج النبوة. لذا أولى رحمة الله عليه المحبة عناية خاصة، فعلى مدارها الأمر كله، بل جعل أولى الخصال العشر التي ينبني عليها المشروع التربوي والتنظيمي للجماعة خصلة “الصحبة والجماعة”؛ بما تحمله الصحبة من معاني الحب والتأسي والتضحية. ولطالما اعتمد هذا الحديث الشريف في مكتوباته وتوصياته رحمة الله عليه: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “حقت محبتي للمتحابين في، حقت محبتي للمتواصلين في، حقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانتهم النبيئون والصديقون والشهداء” رواه الإمام أحمد وابن حبان.
محبة موصلة لحب الله؛ مطمح كل نفس تواقة إلى الانعتاق والقرب من الحنان المنان، كيف لا والمحبة تطوي المسافات طيا، وتحقق الزلفى بأقصر طريق. قال سفيان الثوري رحمه الله: “قلت لأبي بشير: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا. قال: كانوا يعملون يسيرا ويؤجرون كثيرا. قلت: ولم ذا؟ قال: لسلامة صدورهم” سلامة الصدر التي حث عليها المولى الكريم بقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (الشعراء: 89). والتي أكد عليها الإمام المجدد رحمه الله، بل إنه اعتبر إفشاء السلام المذكورفي هذا الحديث كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” (رواه مسلم)، اعتبره سلامة للصدور من الضغائن والأحقاد، فالسلام الموجب للمحبة ثم الإيمان ثم دخول الجنة لا يكون بالقول فقط، بل لابد من أن يصاحبة سلامة الصدر وتطهير القلب مما يكدره، قال رحمة الله عليه: “جسم الجماعة إن لم يكن يسوده الوئام الكامل، والوحدة الوجدانية العقدية، والتحاب في الله عز وجل لا يستطيع أن يؤثر في مجتمعاتنا الفتنوية الفاسدة التي يسيطر عليها الحقد الطبقي والخلاف الحزبي والنعرات القومية” 1.
فالمحبة التي ربى الإمام المجدد أتباعه عليها وتركها باقية إلى يوم القيامة؛ تطهر الأرض من الكراهية والفساد، وتنشر السلام والصلاح، وتعيد للإنسانية كرامتها وعزتها، اقتداء بإمام المحبين وبسيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالصحب الكرام أجمعين رضوان الله عليهم. قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (الفتح: 29)، يقول الإمام المجدد رحمه الله: “ما قدروا على تلك الشدة إلا بوجود هذه الرحمة” 2.
مسؤولية إذن هذه المحبة التي تجعلنا رحماء في ما بيننا، نسعى لتطهير الأرض من الفساد بقلوب سليمة؛ سلام نلقيه على الإنسانية جمعاء، نكره الفساد لا المفسدين ونبذل قصارى وسعنا لإعلاء كلمة الله في الكون. محبة تتطلب العناية اللازمة والتعهد المستمر، تسقى بماء ذكر الله حتى لا تذبل.
فمن يتخلى عن ورده من الكلمة الطيبة والصلاة على النبي العدنان والقرآن الكريم لا يجد لهذه المحبة طعما في قلبه، كيف لا والمولى الكريم قد حذره من كيد الشيطان الذي يتخذ من القلوب الغافلة مرتعا خصبا قال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (الإسراء: 53). ولا أحسن من الكلمة الطيبة التي تذهب وحر الصدور وتصقل القلوب. رزقني الله وإياكم قلبا سليما يستخدمه المولى في إعلاء كلمته ونشر دعوته، آمين والحمد لله رب العالمين.