بقلم: مصطفى شقرون
أخذ شوكته وسكينه على الطريقة الأوروبية.. وكذلك فعلت.. ثم نظر إلي وكأنه لا يريد أن يضيع وقته في مجادلات بيزنطية عقيمة فلا وقت لديه.. والدوام يبدأ بعد ساعة فقط.. خاطبني بفرنسية باريسية اللكنة وكأنه يريد مني الاختصار.. “انظر لا مشكل عندي بخصوص وجود الله..
المشكل عندي في جدوى الخلق: ما الجدوى من الخلق ما دام الموت هو النهاية أو حتى الجنة والنار؟.. إن كان الله قادرا على تسيير الكون فما الداعي لخلق الدنيا والناس؟”.. فقلت له مستعملا تعبيرا فرنسيا محضا يفيد العبث وبلكنة أضفت إليها بعض التوابل الباريسية ما برأني لبعض الوقت من “تهمة الخونجة”: “تعني لماذا كل هذا السيرك؟” ( pourquoi tout ce cirque ? ) .. فقال مرتاحا: “بالضبط”…
“سأجيبك.. لا تخف.. وفي دقائق.. ثم تعود لعملك.. أنا كذلك أعمل قريبا من هنا .. وعلي أن أغادر بعد 45 دقيقة..
“لكن أولا..لماذا قلت لي أن وجود الله لا يطرح لك مشكلة؟.. هل رأيته؟ أم فقط لأنك أمام شخص مُلتحٍ؟
“لِعلمك.. لا مشكلة عندي إن قلت أن الله غير موجود.. فمن حقّك أن نعتقد ما شئت.. على العكس.. كان هذا سيجعل نقاشنا أكثر إثارة…
وابتسمت…
لم يعرف بِمَ يجيب (ما كان له أن يكذب .. لمست فيه صدقا.. والله أعلم..) وهذا كان هدفي.. أن أربِك غروره و”ذكاءه” أولا.. وثانيا أن يعلم أن الملتحين منفتحون لا يخافون من أي نقاش “عقلي” منطقي صادق..
ولا يدافعون فقط..
لكن لأسهِّل الأمر عليه قلت له..
“لا يهمني اعتقادك.. سنبدأ بسؤالك عن جدوى الخلق..
– هل لديك سيارة؟
– نعم.. (مستغربا)
– تغسلها من حين لآخر؟
– نعم.. لكن..
– وبإمكانك غسلها جيدا لوحدك؟
– بالطبع..
– جيد جدا..
– هل لديك أطفال؟
– نعم.. طفلة..
– ما اسمها؟
– “لينا”
– أوه اسم جميل جدا !
– كم عمرها؟
– 4 سنين..
– “الله يخليها ليك” (بدارجة مغربية)
– ميرسي (merci)…
– هل بإمكانها أن تغسل سيارتك إذا ما طلبتَ منها ذلك؟
– بالطبع لا (قالها بابتسامة من بدأ يفقد صبره)
– هل تفضل أن تغسل سيارتك لوحدك أم تفضل أن تساعدك “لينا” بدلوها الوردي الصغير وبمعطفها البلاستيكي الوردي؟
– لم أفهم.. لم يحدث هذا من قبل..
– تخيل أنكما تغسلان السيارة معا..
– .. نعم سيكون الأمر أجمل بكثير معها..
هنا قلت له: لقد انهيت كلامي.. هذا جوابي على سؤالك..
– لم أفهم قصدك..
قلت شارحا:
– هكذا أمر الله معنا.. يعلم أننا لن نسير الأرض جيدا.. لكنه لحبه لنا.. يستعملنا معه..
توقف الشاب عن الأكل… تماما.. وقال مشيرا إلي بسبابته:
– لم أفكر بهذا أبدا.. ولم يجبني أحد قبلها هكذا..
كانت فطرة الرجل سليمة بحسب ما أحسست به، لكنه استعمل جزءا بسيطا جدا من عقله -بل من العقل الذي أُعطيَـهُ- استعمالا مغرورا لِما رأى من دنيا ميسّرة حوله ظن أنه هو من يسّرها بـ”علمه”.. وفطنته..
فهمت من كلامه أنه كان يبحث عن منطق “المنفعة” في سؤاله (أي “ما النفع من خلق البشر والحياة إذا كان الله قادرا على فعل كل شيء لوحده؟”).
ما لم يفكر فيه هو إمكان وجود منطق آخر.. منطق الحب مثلا.. أي مع أنه لا توجد “ضرورة نفعية” لتقوم “لينا” بغسل السيارة (إذ لا قيمة مضافة لعملها).. مع هذا فعملها وقربها وضحكها ولعبها ونقص عملها وضعفها وصدقها وتعلّمها وجهدها وصبرها ونيتها لتصلح وفرحها وحرصها على أن تفرح والدها.. كل ذلك جعل مساهمتها مطلوبة أكثر وأكبر… منطقيا… بل عمليا تجريبيا..
ما حدث في هذا اللقاء لا يعني أن هناك منطقين فقط (منفعة/ محبّة).. هناك أكثر من منطقين حتما..
اللهم علمنا من عندك.. لندعو خلقك ..
لقد “أحب” الله أن يجعل في الأرض خليفة.. بكل بساطة.. هذا ما غاب عن الذي اعتمد على عقله المحدود فقط.. فكاد أن يضله “هواه”.. .
لقد أحب الله أن نوجد..
وقليل منا من يشكره على ذلك..
ثمّ..
إن الله يفعل ما يريد..