تعرضنا على يد النظام المغربي المخزني لظلم واعتداء شنيع، أفضى إلى إفناء زهرة شبابنا في أقبية السجون ظلما وعدوانا، قابلناه بتفويض أمرنا إلى الله تعالى، والرضا بقضائه وقدره، محتسبين، صامدين، ثابتين، غير مبدلين ولا مغيرين. وهو أمر يحمل معاني كثيرة، وينطوي على دلالات عديدة، منها ما يتعلق بالمعتقل وجماعة العدل والإحسان ولطف الله وفضله عليهما، ومنها ما يتعلق أيضا ببشاعة الظلم والظالمين؛ ذلك أن المكوث ثمان عشرة سنة داخل الزنزانة هو حرمان من الحياة، وجريمة مخزنية نكراء، ووصمة عار في جبين المخزن والمتآمرين معه، فضلا على أنه يؤكد أن سياسة القمع لن تجدي في تغيير الناس لمبادئهم، خاصة إذا كانت هذه المبادئ تنبع من روح الإسلام ووسطيتة ورحمته، بعيدة عن مهاوي العنف ومآسيه.
إن هذا المكتوب الذي عنونته بـ”خواطر على درب الصمود” هو مجرد أفكار ومشاعر لاحت لي، فجرى اليراع مقيدا لها، لكنه عجز عن حصرها، لأن قضاء ما يقارب عقدين من الزمن داخل الزنزانة يحوي الكثير من الوقائع، والدروس، والعبر، التي يتعذر اختزالها في سطور وصفحات معدودة.
وفيما يأتي بعض هذه المشاعر والمعاني والدلالات:
ثالث عشر: اعتقالنا تمحيص للأحباب والأقارب
يقول الشاعر: جزى الله المصائب كل خير
وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها مدحا ولكن
عرفت بها عدوي من صديقيلقد كان اعتقالنا امتحانا لأقاربنا وأصدقائنا ومعارفنا، فمنهم من تنكر لنا، ومنهم من قد يكون أساء عن حسن نية أو جهل، ومنهم من خاف وتردد. ومنهم من أبان عن أخوة صادقة، وشجاعة نادرة، وكرم فياض. ولكن الذين تنكروا لنا وترددوا إنما فعلوا ذلك كما اعترفوا هم أنفسهم فرارا بجلودهم، وهذا ليس غريبا، فالمخزن قد زرع، عبر انتهاكاته، وصفحات تاريخه السوداء، الخوف والرعب في قلوب الناس وأفئدتهم وعقولهم، فكلما رأوا مشهدا من مشاهد الاعتداء يستهدف أحد المقربين إليهم إلا وخافوا أن يمتد الظلم إلى أنفسهم، وأرزاقهم. المواطن في الدول التي تحترم نفسها يعيش فيها في أمان وسلام، لا يخاف ولا يهان، فإذا حدث أن اعتدى عليه أحد مهما علت سلطته، لجأ إلى القضاء، أو إلى مؤسسات مدنية وحقوقية جادة، فينصف، ويعاد له الاعتبار. أما في بلدنا فإلى أي سلطة يلجأ هذا المسكين إذا تعرض لاعتداء، أإلى القضاء الذي تحول إلى أداة لتنفيذ التعليمات، أم إلى مؤسسات مدنية جادة، إن وجدت، أضحت تخشى على نفسها وقوت يومها أكثر من أن تعرض نفسها للغرق والإفلاس. الوحيد المشتكى إليه في هذا البلد المستضعف هو الله الواحد القهار، الذي لا يعجزه شيء في ملكوته، لا يرد دعوة المظلوم، إليه المشتكى، وإليه أمر الخلق عائد. فمن هذا المنطلق نعذر أحبابنا وأصدقاءنا ومحبينا الذين فرطوا في حقنا، يشفع لهم أنهم يحبوننا، ويقدروننا، ويدعون لنا بالخير والتوفيق ولو بصوت خافت بعيدا عن أعين الرقابة، ومن لم يعذر الناس فليس من الناس.
وهذا لا يمنعني من القول بأن أبناء أمتنا في كل البلدان الإسلامية ينبغي أن يتحرروا من الخوف الذي زرعته في قلوبهم أنظمتهم الاستبدادية، فالله وحده الذي يجب أن نخشاه، ما ينبغي أن تكون لدينا قابلية لاستيعاب الظلم، والتسليم له، والتجاوب معه. فقابلية الذل والخضوع أهلتنا أن نُخوف فنخاف، وأن نُقاد فننقاد، دون سؤال ولا تردد. وهذه الظاهرة التي ابتليت بها أمتنا بمختلف شرائحها، تستوجب منا، ومن كل الدعاة الأحرار جهدا مستمرا، ووقتا طويلا، لصياغة الشخصية المسلمة الأبية، التي لا تخشى في الله لومة لائم. وقد نبه المرشد العام للعدل والإحسان حفظه الله على هذه المهمة والوظيفة الجليلة، فقال في كتاب إمامة الأمة، ص: 108ـ109: وعلى جند الله أن يعلموا الناس حقهم الشرعي الإلهي في الإنسانية والكرامة وإباء الضيم، ويربوا على ذلك حتى يروا ذلك معروفا وغيره منكرا، وإنها لصياغة كلية للشخصية الإسلامية بواسطة التهجير من نفسية البوار إلى حب الله ورسوله، وحب الموت في سبيله، والوقوف مع الحق ضد الباطل، مهما كان للباطل من بؤس يخشى وسطوة تهدد).
مهمة صعبة، تتطلب جهدا ووقتا، ولكنها ضرورية لتحرير الناس، وإخراجهم من عبادة الناس إلى عبادة الله وحده، لا يخشون سواه، معززين مكرمين، أحرارا طلقاء، بدل أن يعيشوا خائفين، حائرين، مضطربين، مستعبدين.
رابع عشر: عود على بدء
رغم كل ما نزل بنا من مآس، وما تعيشه جماعة العدل والإحسان من حصار يستهدف شل أنشطتها، ومنع ظهور دعوتها، وما تتعرض له من عمليات التشويه، والتضليل السياسي والإعلامي، ورغم ما تتخبط فيه الأمة من تدهور في ظل أنظمتها الاستبدادية، فإنني جد متفائل بمستقبل أمتنا، وغير خائف عليه. لأنها أمة تنطوي على خير كثير. ولا بد لها يوما أن تستيقظ من غفوتها، وتنفض عنها غبار الوهن، وتبدع، وتتعلم، وتصنع، وتنتج، وتتحرر من الاستبداد الذي جعلها أمة أسيرة مقيدة مستعبدة، لا تستطيع أن تنهض برسالتها، ولا أن تتقدم. فالنضال ضد الاستبداد هو نضال ضد الاستعباد، وقد تحدث عبد الرحمان الكواكبي في “طبائع الاستبداد”، ص:15: عن المبادئ التي يجب أخذها بعين الاعتبار أثناء النضال ضد الاستبداد، فقال رحمه الله: “المبدأ الأول: الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية). وقد عبر هنا عن قاعدة ذهبية من قواعد النهوض والتغيير سنها القرآن الكريم، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
فتغيير ما حَلَّ بأمتنا من البلاء يتطلب أولا تغيير ما بأنفسنا، والاستجابة لنداء ربنا عز وجل، القائل في كتابه الحكيم: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ.
إن التضحية التي تقدمها الأمة في سبيل رسالتها، وفي سبيل حريتها وكرامتها وعزتها، هي شواهد إثبات تدل على خيريتها، وبرهان على صدقها، ووسيلة لإحياء القلوب، وإيقاظ الضمائر، وشحذ الهمم، وتقوية العزائم. وقد يتوهم أناس أن هذه التضحيات التي يبذلها أبناء أمتنا هي مأساة ونقم، وهي قد تكون كذلك على المستوى القريب العاجل، إذ لا ينكر أحد أن التشريد والاعتقال والتعسف وترويع الناس، رجالا ونساء وأطفالا، والاعتداء على النفس والمال، وانتهاك حرمة البيوت والتعذيب، كلها صور للمأساة لا نرضاها لأنفسنا ولا لغيرنا، ولا يجوز شرعا أن نتمناها، ولا أن نتطلع إليها، بل نسأل الله العفو والعافية في أحوالنا كلها. لكن الأكيد أن هذا الإيذاء في سبيل الله هو عطاء، ونعم، ومنح، على مستوى ثماره، وهو خير وفير على المدى البعيد. وعلى كل حال فالمسلم المنسجم مع عقيدته ينبغي أن يكون مطمئنا إلى مواعيد الله ومواثيقه، وبأن أمر أمتنا إلى خير، ولله عاقبة الأمور.
إن إفناء زهرة شبابنا وراء القضبان ظلما وعدوانا، وما شابهُ من معاناة وأذى وآلام ليس بالأمر الهين، ومع ذلك فإني أحس من نفسي أنها تسامح كل من مسنا بسوء عمدا أو خطأ، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، راجيا أن نجد ما قدمنا عند رب كريم بر رحيم.
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء، وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.