حكمة استغراق زمن الثورة
فأل عظيم أن تنطلق هذه الثورات في أجواء الربيع النبوي، وفي خضم نفحات ذكرى مولد الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، ليقترن ربيع المولد بربيع الثورة والتغيير ويضفي عليه مسحة من وحي النبوة وبشارة بدنو الفتح، بما كان مولده صلوات ربي عليه وسلامه بشارة وفتحا للعالمين.
من هذه الأجواء أستقي درسا آخر من دروس زمن الثورة، درسا يكشف عن حكمة بالغة أرادها الله جل وعلا من مكوث واستغراق هذه الثورات أياما وأسابيع وشهورا وربما أكثر، لأن الثورات الشعبية عكس الانقلابات العسكرية التي ربما سرعان ما تحسم المعارك وتحقق أهدافها. الثورة انقلاب جذري وشامل تعود نتائجه بالخير على الجميع، في حين أن الانقلاب العسكري لا يعدو أن يكون تغييرا جزئيا يطال قمة هرم السلطة القائمة، بينما يستمر النظام نفسه في جوهره وهياكله وأجهزته ونمط حكمه، دون أن تنال الشعوب من وراءه أي مكتسبات.
يتساءل الكثير عن الحكمة من وراء تأخر نجاح هذه الثورات في هذا البلد أو ذاك، وعن العبرة من سقوط هذا العدد الكبير من الشهداء والجرحى في ساحات التغيير.
أليست الشعوب القائمة اليوم على حق؟
أليست الأرض قد ملئت ظلما وطغيانا واستبداد حتى لا تكاد تجد بلدا ولا مصرا إلا وتعالت منه صيحات وصرخات المضطهدين والمعذبين والمحرومين من أبسط شروط العيش الكريم؟
أوليس الله عالما بغلو وتجبر الحكام، ومطلعا على ضعف وقلة حيلة المغلوبين من عباده؟
فما مغزى هذا التأخر في نزول النصر وهذه المُهج التي تبذل؟
لعل الله يحب أن يرى عباده المومنين المستضعفين يتجردون من كل حول وقوة إلا به سبحانه.
لعله تعالى يريد أن ينفض عباده أيديهم من كل نصير ومن كل مدد إلا من مدده عز وجل.
لعله تعالى يريد أن يملأ عباده مابين الأرض والسماء دعاء وتضرعا واستمطارا لرحمته وتأييده كما ملأها الحكام ظلما وجورا وفسادا واستبدادا.
لعل الله يريد أن تقدم الشعوب البرهان بأنها تريد فعلا التغيير، تغيير واقعها وحالها، من الظلم إلى العدل ومن المهانة والذل إلى الكرامة والعز، ومن الصغار والهوان إلى الرفعة والسمو.
فهل يتحقق كل هذا الانقلاب من حال لآخر ولما ينقلب قلبُ طالب التغيير؟
هل يتحقق هذا التحول دون تقديم برهان؟
قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
وهل يتغير ما بنا دون أن نغير ما بأنفسنا؟
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
فإن كان ما بنا هو الظلم والطغيان والاستبداد والحرمان ونهب ثرواتنا وارتهان مصيرنا إلى الغرب،
فإن ما بأنفسنا هو الفرقة والشتات، ما بنا هو التظالم فيما بيننا والطغيان على بعضنا البعض، ما بنا هو الأنانية وحب الدنيا وأثرة حياة أي حياة، ونكوصنا عن نصرة المظلوم وتقاعسنا عن الضرب على يد الظالم والصدع بكلمة الحق في وجه الاستبداد.
أما وقد بدا أن الشعوب فعلا أخذت تتحسس سبيل تغيير ما بأنفسها، أفرادا وجماعات، والتأمت جموعها وشيعها وأطيافها وأعراقها ومذاهبها في جبهة واحدة وفي صعيد واحد، فنبذت الفرقة والأنانية وتجاوزت الحساسيات الحزبية والمذهبية والطائفية.
أما وقد قام الغني والفقير، الرجل والمرأة، الأمازيغي والعربي والكردي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي، المحجبة وغير المحجبة.. فقد تأذن الله أنْ سيغير ما بنا، وتأذن بأنه تعالى سينصر هذه الشعوب على الظلم والاستبداد، والله لا يخلف وعده عباده. إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
وقد قدمت الشعوب البرهان بأنها تنصر الله لما توحد أفرادها وتآلفوا وتحابوا وتناصروا وتنادوا إلى نبذ الفرقة والتظالم، فحق على الله تعالى أن ينصرها.
وقد نصرها الله في بتونس ومصر في جهادهما الأصغر، وهو كفيل بأن ينصرهما في جهادهما الأكبر. جهاد ومعركة البناء وإعادة وضع أسس وأركان الدولة الديمقراطية الحديثة التي لا تغيب فيها الشعوب عن أنماط التدبير العصري للسياسة والاقتصاد وعن ميادين التنمية في المجالات الاجتماعية والثقافية والتربوية، في كلمة: أن تكون الشعوب حاضرة ومواكبة لعصرها، لكن دون أن تغيب أيضا عن دينها وثقافتها ومقوماتها الحضارية التي تشكل أساس وجودها ومصدر إلهامها وإبداعها.
هذه ربما بعض من حكمة ربك في جانبنا نحن الشعوب من وراء امتداد هذه الثورات في الزمن ومن وراء سقوط هذا العدد الهائل من الشهداء والجرحى.
ليميز الله الخبيث من الطيب. وينظر من يصبر ويحتسب، ويعلم من يدبر وينسحب، ويبين من يحجم ويتنكب. ولينزع من قلوبنا حب الدنيا والخوف من الموت، ويسمو بنا إلى أعلى وأعز ما يطلب، إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة. وقد بتنا نسمعها على لسان كل ثائر وكل قائم للتغيير. لا نستسلم، ننتصر أو نموت).
إن زمن ولحظات هذه الثورات كانت إعلانا عن بداية تغيير سلوك الأفراد والجماعات، وبداية إعادة صياغة الإنسان بمنطقتنا صياغة جديدة هي تلك التي كنا نرنو إليها ونتأملها. لأن التغيير الحقيقي لا شك أنه يبدأ برفع بهذا التحدي، تحدي مغالبة الإنسان الفرد لنفسه وكبح جماحها وإلزامها بما يجعلها ترضخ لمطالب الجماعة ورغبات الجماعة وتطلعات الجماعة.
وقد نجحت الشعوب في هذا التحدي وتجاوزت عتبة الأنانية الفردية و نتانة النزعة القومية وعِمية الراية الحزبية وجهالة العصبية الدينية والمذهبية.. لتلج حيث نجحت الثورات، بتونس ومصر، مسرح بناء صرح الدولة المدنية الحديثة التي لا يعلو فيها شيء من إنتاج وفعل وتقرير البشر عن القانون الذي ارتضته الشعوب قسمة وميزانا في معاملاتها وعلاقات أفرادها وجماعاتها بعضهم ببعض، ومع الدولة الحاضنة الخادمة الملبية والمنظمة والضابطة لمجمل مجالات تلك العلاقات.
أما في جانب الحكام الظلمة، فإن الحكمة من جثوم هذه الثورات على صدورهم مدة غير يسيرة فأتصورها في إمهالهم في طغيانهم وظلمهم وإيغالهم في قتل الأبرياء، حتى لا يترك الله لهم عذرا ولا حجة يمنعون بها عنهم سخطه وانتقامه في الدنيا، حتى إذا أمِنوا أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وصار مصيرهم كمصير حاكمي تونس ومصر المخلوعين، من المهانة والإذلال والصغار، ثم يلاقون حسابهم عند ربهم يوم يبعثون ويأتونه فرادى وهم يحملون أوزارهم وأوزار من نفذ وظلم وقتل بأمرهم وسلطانهم، ولله عاقبة الأمور، إن شاء عذب وان شاء غفر ولا معقب لأمره.
لقد أنظر الله الحكام بمنطقتنا، مدة تزيد عن نصف قرن منذ الاستقلال الصوري الذي حصلت عليه بلداننا، تعاقبوا خلالها على حكم شعوبها، كل منهم يمعن في ظلم وقهر أبنائها ونهب ثرواتها وتعطيل مسلسل البناء والتحديث والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لم يرعووا لسيل الرسائل والنذر التي كانت تبعث وتتنزل عليهم تترا. أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وكوارث طبيعية وانقلابات عسكرية واغتيالات لبعضهم وفضائح للآخرين وأمراض خطيرة وسَوْق أمام العالم بالسلاسل إلى الشنق.
كل هذه النذر لم تجد من الحكام عيونا تبصرها ولا آذانا تسمعها ولا عقولا تتدبرها ولا قلوبا تتعظ بها. إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
الشعوب خلال هذه الفترة كانت تائهة حائرة، لم تجد من يأخذ بيدها نحو المطالبة بالتغيير والإصلاح الحقيقيين. غيبتها عن الساحات تلك المذاهب الفلسفية والإيديولوجيات السياسية التي فرقت جموعها شيعا وفرقا متناحرة متخاصمة، ألهتها في تتبع مظاهر وظلال الفساد والاستبداد عن طلب أصلهما وشجرتهما.
لقد أذن الله اليوم أن تنبعث هذه الشعوب، وأذن أن تعرف مطلبها، أذن أن يريها وجهتها فولت إليه وجهها قاصدة مخلصة استرخصت في سبيل ذلك كل غال ونفيس.
لم يعد للحكام بعد اليوم بد من النزول والرضوخ لإرادة الشعوب، ولى عهد الاستبداد، فإما أن يتصالحوا مع الشعوب ويقروا لها بالسيادة وينهوا حكمهم الظالم طوعا ويحفظوا ما بقي من كرامتهم، وإما أن يسقطهم قدر الثورة كرها وعنوة ولا كرامة لهم آنذاك ولا حظوة.