ثورة الجُمَع
مظهر رائع وبالغ في التعبير والإيحاء، ملايين الرجال والنساء والأطفال يحجون إلى ميادين التغيير لأداء صلاة الجمعة. هذا المشهد ألبس الثورات لبوسا آخر، وأضفى عليها روحانية المسجد، وآداب المسجد، وهدوء وطمأنينة المسجد، ورفق ولين المسجد.
إنها بحق ثورة الجُمَع، سيتحدث عنها التاريخ ويستحضر صورها ومشاهدها، وسيذكر خطبها وصلواتها وقنوتها ودعواتها، وسيَسْتَعبِر لعَبَرات القائمين الراكعين الساجدين في ساحات التغيير.
ثورة يقظة بعد غفلة، ثورة تردد فيها نداء الله أكبر دوت به حناجر الشباب والشيوخ والنساء والأطفال. ثورة أكدت حقيقة أن الشعوب قد استحضرت البعد الديني في زحفها وسعيها إلى التغيير، بما هو عامل جمع وتآلف ومحبة وتراحم، وبما هو وازع لكل مكرمة وفضل.
ثورة توبة وأوبة ولجوء إلى ركنه الشديد. فكم من تارك للصلاة اهتز قلبه واقشعر جلده لذلك المشهد الرهيب للجموع الغفيرة التي نزلت إلى الساحات لإقامة صلاة الجمعة، ففر والتحق توا بصف المصلين.
ثورة حضور مع الله واستحضار لمعيته. فكم من غافل عن ذكر الله رفعته شعارات الثورة إلى قمة اليقظة، وكم من جاهل لمكانة الدعاء أدرك في زمن الثورة أنه مخ العبادة حينما سمع أصوات المبتهلين الداعين والراجين رحمة ومدد الله، فصار الذكر والدعاء والنداء والشعار، في الكر والفر، الله أكبر الله أكبر.
أدركنا جميعا بأن هذه الشعوب متمسكة بدينها في غير تعصب ولا تزمت. تمسك رفيق مُتئد، لكنه تمسك صادق وفاعل وملهم، هو كل ذلك النور والصبر والخير والمحبة التي رأيناها تلألأت بها جنبات ميادين التغيير وتُعطر أجواءَها. تمسك كان مشهده الأعظم ورمزه البالغ، عناق القس القبطي بميدان التحرير بالقاهرة أخاه الإمام المسلم، ورفع الإنجيل إلى جانب القرآن.
أدركنا بأن الأنظمة الحاكمة هي التي حاولت وتحاول جاهدة إبعاد الناس عن دينهم، لأنها تدرك كم سيحييهم دينهم، وكم سيلهمهم وكم سيشد من أزرهم ويقوي سواعدهم ويعزز مركزهم.
الحركة الإسلامية عامل تثبيت وتوازن
أخطأ الكثيرون من المحللين والدارسين في الداخل والخارج قراءة عناوين الحركة الإسلامية بمنطقتنا. وبالغوا في التهويل بها وإظهارها بمثابة ذلك الوحش المتربص بالشعوب والأوطان لينقض عليها وعلى مستقبلها وأحلامها وتطلعاتها كلما سنحت له الفرصة.
عملت الآلة الإعلامية للأنظمة العربية ومراكزها الاستخباراتية وأجهزتها البوليسية منذ عقود على التشكيك في إرادة الحركة الإسلامية، وخلقت لها كل النعوت والأوصاف الممجوجة، لمزا وهمزا وتحريضا وإيقاعا بينها وبين الشعوب. كالت لها الاتهامات بالإرهاب والتخريب والعمالة للأجنبي والرغبة في العودة بالمجتمع إلى الوراء، إلى ظلمة التفكير والتكفير، وإلى معارك تقودها حول مسائل بعيدة عن قضايا الشعوب الآنية والملحة. لكن زمن الثورة كشف عن درس آخر في قراءة الحركة الإسلامية، وقدم لها شهادة حسن السيرة والسلوك.
لقد أُسقِط في يد كل المشككين والمحرضين، وخاب مسعاهم في النيل من نزاهة وصدق ووطنية واعتدال ونضج الحركة الإسلامية. ألجموا وشلت ألسنتهم لما نطقت الحركة الإسلامية على لسان قياداتها ورموزها، وبادرت طاقاتها من رجالها ونساءها، وانخرطت وسط الشعب واصطفت معه وإلى جانبه لا تتقدمه ولا تتخلف عنه، تحمل مع أبناء الشعوب عبئ التغيير.
هذا الجزء من الشعوب، ومن القوى الفاعلة فيه، ورغم امتدادها وانتشارها في كل شرائحه، لم تسعى أبدا إلى احتكار زمن ومشاهد هذه الثورات، ولا إلى الاستئثار بمكاسبها أو القفز على مطالبها، بل أخذت موقعها ضمن هذا الحراك الشعبي دون أن تختص برفع شعار أو تنفرد برمز يميزها عن جموع الجماهير.
لقد انحازت الحركة الإسلامية إلى اختيار الشعوب الثائرة كطرف مشارك مآزر ومثبت. وهذا السلوك الذي عبرت عنه نابع من اقتناعها الراسخ بأنها ليست القوة الوحيدة الفاعلة في المجتمع، وإنما هي طيف ولون من مجموع أطياف وألوان القوى الوطنية. وهو نابع أيضا من إدراكها لحساسية الموقف والمرحلة، فالعالم كله يرصدها بعين الريبة والشك، والأنظمة الحاكمة بمنطقتنا لا تنفك تنذر من إمكانية سطو هذه الحركة على نتائج الثورة وسرقة مكتسباتها لتعود بالمجتمع إلى المربع الأول الذي نهضت الشعوب وثارت ضده، مربع الحكم الشمولي المستبد.
فهذه تونس، أعلن فيها راشد الغنوشي بأن حركة النهضة الإسلامية لن تقدم مرشحا للانتخابات الرئاسية، وأنه ليس في نيتها فرض أي من اختياراتها السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية على الشعب التونسي، بل ستكون في خدمته وفق ما يختاره ويقرّره. ونفس التأكيد عبر عنه الإخوان المسلمون في مصر، بعدم ترشيح أحد من قياداتهم للرئاسيات، وبأنهم سيكتفون بتغطية 30 % من الدوائر الانتخابية في التشريعيات.
هي رسائل طمأنة وتهدئة للنفوس في الداخل والخارج، تخبر بأن الحركة الإسلامية لن تكون نقمة على الشعوب بمنطقتنا، بل ستكون صمام الأمان في تثبيت مكتسبات الثورات، ورافعة لبناء وتحديث وتنمية الأوطان.
وهي رسائل أيضا تعلم العالم بأنها ليست خطرا على البشرية ولن تمثل عامل تخريب وترويع وإخلال بأمن واستقرار المنطقة والعالم، بل ستعمل جاهدة من أجل الحفاظ على السلام وحسن الجوار، لكن على أساس المعاملة بالمثل والاحترام المتبادل، وعلى أساس جعل المصلحة العليا للمنطقة فوق كل اعتبار.