إن فصل الحديث في القيم، قصد التصدي للهجمات الهادفة للنيل من مقوماتنا الإسلامية لدى الشباب، يتطلب تأسيس خطاب هادف، يحدد مبدئيا مفهوم القيم قصد توحيد المصطلح، الذي يتم التعامل بموجبه في كل استراتيجية لبناء الأنسقة القيمية.
المفهوم اللغوي للقيم
يرتبط هذا المفهوم ويكتمل معناه بمفاهيم أخرى جنيسة:
1- القيمة: واحدة القيم، فعلها “يقَيِّم”، وماضيها “قَيَّم”، وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء. فالقيمة ثمن الشيء بالتقويم. تقول تقاوموه فيما بينهم 1، وما له قيمة إذا لم يدم على شيء 2.
2- القيام: العزم ومنه قوله تعالى: إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ[سورة الكهف الآية 14] أي عزموا فقالوا، وهو المحافظة والإصلاح ومنه قوله تعالى: اِ۬لرِّجَالُ قَوَّٰامُونَ عَلَى اَ۬لنِّسَآءِ[سورة النساء الآية 34]. وقوله تعالى:إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماٗۖ[سورة أل عمران الآية 75]، أي ملازما ومحافظا وهو الوقوف والثبات ومنه قوله تعالى: وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْۖ[سورة البقرة الآية 19]، أي وقفوا وثبتوا في مكانهم.
3- القائم بالدين: المستمسك به الثابت عليه، وكل من ثبت على شيء فهو قائم عليه 3
5- الاستقامة: الاعتدال، يقال استقام له الأمر، ومنه قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوٓاْ إِلَيْهِ[سورة فصلت الآية 6]، أي في التوجه إليه دون غيره.
المفهوم الاصطلاحي
وتدل كلمة “قيمة” على معان متعددة، فمنها ما هو ذو علاقة بالجانب الروحي، ومنها ما هو ذو علاقة بالطابع المادي، ومنها ما له علاقة بالمحيط الاجتماعي، والقيمة يسعى أفراد المجتمع إلى تحقيقها متى كان فيها نفعهم، وطردها والابتعاد عنها متى كانت مضرة بهم، وهذا ما يؤكده الدكتور طه عبد الرحمن بقوله: “القيم هي جملة المقاصد التي يسعى القوم إلى إحقاقها متى كان فيها صلاحهم، عاجلا أو آجلا، أو إلى إزهاقها متى كان فيها فسادهم، عاجلا أو آجلا” 4.
استنادا لما سبق يمكن تحديد القيمة بأنها جملة المعتقدات التي يحملها الفرد نحو الأشياء والمعاني وأوجه النشاط المختلفة والتي تعمل على توجيه رغباته واتجاهاته نحوها وتحدد له السلوك المقبول أو المرفوض، والصواب أو الخطأ، وكل هذا بنسبية ظاهرة لا سبيل إلى إنكارها.
المعنى الشرعي للقيم
لا يخفى على أحد أن كل مصطلح هو بناء له أبعاد ودلالات ترتبط بمجالات معينة تحدد انتماءه إليها وبمستويات مختلفة. لكن هذا المصطلح إن لم يؤطره التأطير الشرعي فإنه يظل مصطلحا يدور بين التجريد والتقليد لذالك نجد الوحي يؤطر كل المفاهيم في إطار بعدي عالمي الغيب والشهادة.
لقد وردت كلمة (قيمة) و(القيم) في القرآن الكريم في آيات عديدة منها قوله تعالى وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اُ۬للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اُ۬لدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ وَذَٰلِكَ دِينُ اُ۬لْقَيِّمَةِۖ[سورة البينة: 5].
كما وأن الله عندما صاغ نفس الإنسان وسواها استودعها فكرتي الخير والشر وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّيٰهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَيٰهَا[سورة الشمس: 7 – 8] فالإنسان إذن زود ببصيرة أخلاقية وهدى طريقي الفضيلة والرذيلة اَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناٗ وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَٰهُ اُ۬لنَّجْدَيْنِۖ[سورة البلد: 8 – 10].
من خلال التأمل بالآيات السابقة نجد أن جميعها جاءت بمعنى الاستقامة والاستواء والعدل والإحسان والحق، وقد ارتبطت في جميع الآيات بالدين.
موقع الشباب في الإسلام
يقول الله سبحانه وتعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ[سورة الروم الاية 54].
فالشباب فترة زمنية لها قيمتها ومكانتها في الحياة؛ فهي باكورة الحياة، وأطيب العيش أوائله كما أن أطيب الثمار بواكيرها، والشباب مرحلة الفتوة والنضارة. ومرحلة الشباب مرحلة من مراحل العمر لم يكتمل نضجها بعد؛ فهي قابلة للتشكل والتغير، ومن هنا يأتي دور الأسرة والمدرسة والشارع في توجيهها إلى الخير، وبذل مزيد من التربية والرعاية والاهتمام.
ففي سورة الكهف ذكر قصة الفتية في الزمان الأول، قال الله تعالى:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [سورة الكهف الاية 13] وقصتهم فيها الاعتزاز بالدين، والدعوة إليه، والاستعانة بالله ودعاؤه، واعتزال أهل الباطل عند العجز عن إصلاحهم، وغير ذلك؛ قال ابن كثير رحمه الله: “فذكر الله تعالى أنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا، وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا، وأما الشيوخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.”
فتحديد مفهوم الفتوة هو مرتكز على الكمال الديني والخلقي والجهادي، وقد تكلم الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عن فتوة البناء التي تتطلب مبدأين: الشجاعة التي تطلب درء آفة الخوف، والتواضع الذي يتطلب الرحمة القلبية وسعة الصدر.
فالشباب هم عماد حضارة الأمم، لأنهم في سن البذل والعطاء، سن التضحية والفداء.
تناولت الأحاديث الشريفة هي الأخرى قضايا الشباب، موضحا فيها الرسول الكريم أن مرحلة الشباب هي مرحلة التكليف والمسؤولية فقال عليه الصلاة والسلام لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك” 5
أما رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد اشتد حرصه وتوجيهه للشباب، وظهرت عنايته الفائقة بهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله” وذكر منهم: ((وشاب نشأ في طاعة الله))؛ رواه البخاري
أهمية القيم في حياة الشباب
إن ما نعيشه اليوم كأمة إسلامية هو أزمة قيم وصراع قيمي، بين الأخذ بالقيم الأصيلة والموروثة، وبين الأخذ بالقيم الوافدة من الخارج، وهنا يبرز دور التربية على القيم؛ فهي الكفيلة بتعديل مسار منظومة القيم، وإعادة قاطرتها إلى السكة الصحيحة، فيجب علينا أن نتجاوز مرحلة التلقين إلى مرحلة غرس المبادئ والقيم، ولن يتأتى ذلك إلا بتضافر جهود مختلف الأطراف المساهمين في صناعة الإنسان من أجل غرس القيم، في ظل تصور واضح لمنظومة القيم المراد تحصيلها والعمل عليها.
إن الشباب مقود التغيير الذي يتحول من خلاله الفساد إلى صلاح، والظلام إلى نور، والضلال إلى هدى، لا سيما أن أُنشئ هذا الشباب على المبادئ والأخلاق الحميدة حيث يعتبر هذا دور المجتمع الرئيسي اتجاه الشباب بما يوفره لهم من مبادرات شبابية لتسخير قواهم في أبواب النفع، بالإضافة إلى ما يقع على عاتق الأهل من غرس مبادئ الخير والصلاح في نفوسهم منذ الصغر.
فالدين الإسلامي بكل القيم التي ترتقي بالإنسان وتهذب أخلاقه، وتسمو بعواطفه، وترقق مشاعره، وتنمي إحساسه بالجمال، ما يضع القيم الإسلامية في مرتبة عليا، ويجعلها حاكمة على غيرها من القيم.
فالشباب يعني المستقبل، ومستقبل أي أمة بدونهم يعتبر منعدما. وإذا كان نقل قيم الأمة الإنسانية إلى الأجيال القادمة عبئا، فالحامل المقدس لهذا العبء هم الشباب.
إن الأمة تبدأ بفقدان هويتها عندما ينحرف شبابها عن الأخلاق والسلوكيات الأصيلة، فتملؤهم الشهوات الهابطة، ظنا منهم أن هذه الشهوات تشبع ظمأهم، فعلينا أن نبعد الشباب عن هذه الغرائز والمسكنات الدنيوية الفانية، لأن تدهور أوضاع الشباب وانحطاط أخلاقهم لا يدمرهم وحدهم وحسب، بل يسبب انحطاط الأمة بأكملها.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين “في الشباب خير كثير، نرجو من كرم الملك الوهاب أن يقيض في الجيل الحاضر طليعة تتلقى الربانية من أهل الربانية، وتتلقى العلم من أهل العلم، والحكمة من أهل الحكمة، والهمة الجهادية من أهل الهمة، حتى تكون رسول الأجيال النيرة من سلفنا الصالح” 6.
أظن أن مسألة أزمة القيم لدى الشباب هي مسألة معقدة ومركبة وتتطلب معالجة مجتمعية شمولية (تربوية، ثقافية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، إعلامية…) وهي مسؤولية كل وسائل ومؤسسات التنشئة الاجتماعية من مدرسة وأسرة وشارع ووسائل الإعلام والاتصال.
خاتمة
إن الشباب اليوم أحوج إلى مجموعة من القيم الإسلامية التي جاء بها ديننا الحنيف، ودعا إليها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ومنها: قيم المحبة والرحمة والحياء والتكافل ونصرة المظلوم ورفع الظلم الذي يتعرض له شباب اليوم، وكذلك تنمية شخصيتهم وبنائهم الذاتي.
فالشباب ثروة الأمة التي لا تقدر بثمن وأعظم استثمار نستثمره اليوم هو استثمارنا في شبابنا في تنشئتهم على قيم الوحي وأخلاقه وفضائله.
[2] الفيروز أبادي، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، طبعة 2005،
[3] ابن منظور، لسان العرب _م س ص 500.
[4] طه عبد الرحمان الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب 2006 ط. 2 ص: 68.
[5] أبو عبد االله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري. المستدرك على الصحيحين (كتاب الرقاق، حديث رقم 7846) دار الكتب العلمية بيروت، سنة 2002، ط 2، ص 34.
[6] عبد السلام ياسين، سنة الله، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، طبعة 2005م، ص 260.