تعددت الوجـوه والمخزن واحد
تعاقب على أم الوزارات المغربية -وزارة الداخلية- منذ أكثر من ثلاثة عقود خمسة وزراء سجل التاريخ المخزني لكل منهم لمسته وأسلوبه في التضييق على جماعة العدل والإحسان، بما يدل على أن موقف المخزن من الجماعة ثابت وإن تنوعت الأساليب وأشكال التطبيق.
فإذا كان قيدوم وزراء الداخلية الراحل إدريس البصري قد ابتكر أسلوب الحصار ومحاكمات قيادة الجماعة وطلبتها، فإن خلفه الميداوي فتح واجهة حرب الشواطئ. وإذا تميز عهدا جطو والساهل بنوع من المرونة في التعامل مع الجماعة دون التراجع عن الثابت: الحصار المقنن والتعتيم الإعلامي، فإن عهد بنموسى الذي تزامن مع إطلاق شعاري: “العهد الجديد” و”دولة الحق والقانون” دشن مرحلة جديدة في تعامل المخزن مع الجماعة تميزت بتجاوز كل الخطوط التي كان أسلافه لا يجرؤون على تخطيها مراعاة –ربما- لما كان يحرص عليه الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله من تفادي الدخول في مواجهة علنية ومفتوحة مع الحركة الإسلامية التي تنطلق من نفس مرجعية النظام السياسي المغربي.
“جرأة” بل تجرؤ أجهز على ما اعتبر مكتسبات في مجال الحقوق والحريات في إشارة “لعودة حليمة إلى عادتها القديمة” كما يقول المثل الشعبي، فجاءت الاعتقالات في صفوف ما يسمى “السلفية الجهادية” وقساوة الأحكام، مثلما جلَّتها محاكمات الرأي والصحافة المستقلة. تجرؤ أجهز على ما بقي من قيم الحياء والتعفف من خلال مخططات التمييع والخلاعة.. هو إذن عنوان العهد الجديد كان للجماعة فيه النصيب الأوفى.
لقد فتح مخزن “العهد الجديد” في محاربته للجماعة كل الواجهات، واستنفر كل إمكانيات الدولة البشرية والمادية وورط جهاز القضاء وأغرق محاكم البلاد في قضايا توبع فيها الآلاف من أعضاء الجماعة رجالا ونساء شيوخا وشبابا بل وأطفالا في سابقة لم يتعود عليها القضاء المغربي الذي لم يتوان في الغالب الأعم من إصدار أحكام البراءة ابتدائيا واستئنافيا.
عهد جديد فيه “شنت السلطات المخزنية -ومنذ 24 ماي 2006- حملة قمعية واسعة ضد جماعة العدل والإحسان. هذه الحملة وإن لم تكن جديدة على الجماعة، ولا مستغربة من نظام يتضايق ممن يقول لا للفجور والطغيان، فإنها تميزت بحدتها والمدة الزمنية التي استغرقتها – ولا تزال متواصلة- وكثرة الحماقات التي ارتكبتها سلطات المخزن، متجاوزة بذلك قوانين الأرض وشرائع السماء” 1 .
عهد جديد استباح الحرمات وصادر الحقوق والحريات ولفق التهم لتدنيس أعراض الأبرياء وضيق على الأرزاق وشرد الأطفال والأمهات بل والحوامل وهن على أبواب الوضع وشمع البيوت وتجاهل أحكام القضاء.. هذه عناوين منجزات العهد الجديد، وهذه تجليات دولة الحق والقانون.
بين يدي الذكرى الثالثة للحملة
“.. إن جماعة العدل والإحسان تمكنت بفضل من له الحول والطول، جل وعلا، أن تصمد وأن تحافظ على تماسكها ومواصلة أداء رسالتها؛ بل إنها جعلت من هذه المحنة منحة، ومن المتاعب حوافز على المقاومة والتحدي، وإبداع الوسائل الكفيلة بمواصلة العمل بكل أبعاده التربوية والدعوية والسياسية والإعلامية وغيرها…” 2 .
انطلاقا مما أجمل نقف عند أهم مجالات استثمار الجماعة للحملة المخزنية:
– تربويا: إن التضييق الذي يمارسه المخزن على الجماعة -باعتبارها دعوة ذات مشروع انبعاثي للأمة اكتسابا للرجولة الإيمانية ومعانقة لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعد غياهب الاستبداد عضا وجبرا ينبلج فجر عزة الأمة واستخلافها ليبلغ دين الله تعالى ما بلغ الليل والنهار- سنة إلهية سرت على أكرم خلق الله تعالى الأنبياء والمرسلين، وسرت على أئمة الهدى والدعاة عبر التاريخ. والعدل والإحسان ليست استثناءً، وما تتعرض له مؤشر صحي على أن الجماعة تسلك السبيل الصحيح.
ثم إن التضييق المخزني يلجئ أبناء وبنات الجماعة إلى المولى الكريم، فبتأييده يثبت الصادقون في ميدان التدافع مع قوى الباطل، ولا يخالن أحد أن استماتة رجال ونساء الجماعة ومقارعتهم لمخططات النيل من هوية الأمة وقيمها يتحقق بتخطيطهم ومناوراتهم وحيلهم، بل بتوفيقه وتسديده جل وعلا، وفي هذا تصحيح للنية وتحريض على مداومة طرق باب المولى الكريم في جوف الليل استمطارا للعون والسداد. “وعموما فإن العمل في الشدة،… تربية على التعلق الدائم بالله واستمطار رحمته ومدده وعونه. ونظن أن كسبنا في هذه المجالات كان جيدا، والحمد لله، ونسأل الله المزيد” 3 .
– تنظيميا: لقد يسرت الحملة بل الحملات المستمرة على الجماعة منذ نشأتها فرص مواتية لتعبئة الصف وشحذ همم وعزائم الأعضاء، فترسخ الولاء للجماعة ونمت القابلية للبذل والتضحية. إن تعدد محطات التضييق على الجماعة وفر لها مناسبات للتواصل مع قواعدها تنويرا للأفهام وكشفا لأبعاد النهج المخزني وتقويما وتقييما للسير والأداء وتطويرا لأساليب العمل ساعد على “تمحيص للصف ووقاية من الانتهازيين، واختبار للرجولة” 4 ، مثلما ساعد على “تصعيد الحيوية في أطرنا وكفاءاتنا، وفي استثمار ذكائنا الجماعي لتجويد أساليبنا التنظيمية الدعوية الحركية، وحفز الجميع ليساهم كل بما يستطيع، برأي أو فكرة أو اقتراح أو مشروع أو غير ذلك، مما جعل العدل والإحسان لا تعرف الرتابة، وتتمتع بحيوية موصولة ما نحسب أن هناك تيارا سياسيا أو مجتمعيا يسامينا فيها” 5 .
– تكوينيا: لقد فرضت أجواء التضييق التكوين المستمر بل وتعميقه في شتى المجالات اكتسابا للمهارات والخبرات، ومن ذلك أن الزج بأعضاء الجماعة في محاكمات صورية أكسبهم تكوينا قانونيا يجعل القضاة لا يميزون أحيانا بين أجوبة المتابعين من أعضاء الجماعة ومرافعات المحامين من حيث ضبط القوانين المنظمة للتجمعات العمومية. ومن الواجهات التكوينية التي يسَّرتها الحملة المخزنية اكتساب الأعضاء أبجديات الإعلاميات واستعمال الشبكة العنكبوتية وفي وقت وجيز غداة إقدام المخزن على فضيحة حجب المواقع الرئيسية للجماعة.
– دعويـا: لقد أسدت الحملة خدمة للجماعة من حيث لا يدري المخزن، فبقدر ما سعى للتشويش على علاقة الجماعة بالشعب من خلال أشكال الترهيب والتعنيف وإشاعة الأباطيل، بقدر ما أعطى الدليل على صدقية الجماعة وثباتها على الحق، “ولا أدل على ذلك من كثرة الوافدين على العدل والإحسان والعاطفين والمحبين” 6 . إذ القاعدة الشعبية أن المخزن يحارب الصلاح ويُمَكن للعبث والمجون والفساد ما جعل دعوة العدل والإحسان نوعية يلتحق بصفوفها ذوو المروءات والرجولة الإيمانية ممن لا تؤثر فيهم الدعاوى المغرضة.
– تواصليا: إن الحملة والحصار وفر للجماعة مادة تواصلية مع مختلف فئات المجتمع فضحا للشعارات الجوفاء وبسطا لمشروع الجماعة ورؤيتها التغييرية. لقد فرض التضييق المخزني على الجماعة ابتكار أساليب لكسر الحصار من قبيل اللقاءات التواصلية مركزيا أو محليا مع مكونات النسيج السياسي والحقوقي ومع ذوي المروءات من المفكرين والعلماء فاتسعت قاعدة التعاطف مع الجماعة والمناصرين لخطها لا سيما على المستوى الحقوقي، إذ تضيق قاعات المحاكم بأعداد كبيرة من المحامين المؤازرين لأعضاء الجماعة، يضطر معها القضاة أحيانا لتخصيص جلسة لتسجيل المؤازرين. ويكفي أن نذكر بحجم حملة التنديد بقرار حجب المخزن لمواقع الجماعة الالكترونية في الداخل والخارج، بل سجل موقع الجماعة الرئيسي أعلى رقم للقراء والزوار خلال فترة الحجب.
“لقد أصبحت العدل والإحسان دعوة ملتصقة جذورها بتراب هذا البلد، وانتشرت لتدخل قلوب وعقول وبيوت السواد الأعظم من الناس فحازت القبول والرضا والاحترام بسبب نهجها الرفيق البعيد عن العنف، وبسبب وضوحها منذ البداية سواء في منطلقاتها أو أهدافها أو وسائلها أو مبادئها أو مواقفها أو علاقاتها..” 7
الظهور الإعلامي للجماعة: التوقيت والرسائل
تسير الجماعة وفق استراتيجية محكمة لا تستفزها العوائق، موقنة في رعاية وتوفيق ونصر ربها، واثقة من منهاج عملها فلا تهور ولا قفز على المراحل، تدير تدافعها مع الباطل بترو واتئاد فتوظف قدراتها الذاتية -المتواضعة في الغالب- وتستفيد من أخطاء خصومها. ومما يستحق الوقوف عنده في هذا الباب تدبير الجماعة للشأن الإعلامي لما له من أهمية قصوى في صناعة رأي عام مساند أو معارض.
إن الجماعة في ظل الحصار محرومة من التواصل مع الشعب عرضا لتصورها وبسطا لمواقفها من قضايا المجتمع والأمة، من هنا وجب استثمار ما تيسر من فرص، ومن ذلك ذكرى الحملة المخزنية الثالثة في طبعتها “الشكيبية” رغم أنه من حيث الجوهر فمسيرة الجماعة تقترن بالحصار، لكن الحكمة اقتضت الوقوف عند هذا الحدث من خلال ظهور إعلامي لافت غطى على حدث الانتخابات المحلية وشغل وسائل الإعلام -لاسيما المكتوبة منها- لأسابيع يفسره كم المقالات الإخبارية والتحليلية لتصريحات الجماعة ومضامين الندوة الصحفية التي نظمها الأستاذ فتح الله أرسلان، عضو مجلس الإرشاد والناطق الرسمي للجماعة، في بيته رفقة ثلة من قيادة الجماعة بمناسبة ذكرى الحملة المخزنية. كما يفسره تهافت المنابر الإعلامية المكتوبة على استجواب قيادة الجماعة واستطلاع مواقفها في قضايا المجتمع.
فإذا كان توقيت هذا الظهور يرتبط بذكرى الحملة، فإن رسائل التصريحات ومضامين القرص المرئي -الذي تم توزيعه على الصحافيين وبث عبر موقع الجماعة الرئيسي، حيث بدا الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد الجماعة في حالة صحية تدحض ما تناقله مرضى القلوب ونشرته أقلام المخزن المأجورة، يتحدث الرجل كعادته رابط الجأش لا تزيده السنون إلا يقينا فيما ندب نفسه له منذ عقود وثقة في نصر الله القوي العزيز- رسائل تتلخص مضامينها في:
– إن جماعة العدل والإحسان باقية على مواقفها من الظلم والاستبداد الذي يجثم على صدر الشعب ويبذر مقدراته.
– إن التضييق على الجماعة مهما كان مكلفا لن يجعلها يوما بحول الله تعالى تقبل بأنصاف الحلول ولن تنخرط في مهزلة خداع الشعب، وتمدد عمر الظلم وتفوت فرص الإصلاح الحقيقي.
– إن الجماعة متماسكة -والحمد لله على فضله ومنه- بولائها لله ورسوله وقوية بمؤسساتها وضوابط اشتغالها، وليطمئن المغرضون أن مشروع العدل والإحسان ماض ماض ماض إلى أن تعانق الأمة موعود ربها وبشارة نبيها بالاستخلاف والعزة. فإذا كانت “مكانة الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين -بارك الله في عمره- لا يمكن أن يعوضها أحد، لكننا نستبشر بمستقبل واعد للجماعة، لأن الأستاذ المرشد حرص منذ تأسيس الجماعة على أن تعمل بنظام المؤسسات، وزرع في أجيال الجماعة روح البذل والإخلاص والعمل لله، وأنتج بناءً نظريا محكما وزاخرا ومستقبليا” 8 .
[2] نفس المرجع.\
[3] نفس المرجع.\
[4] نفس المرجع.\
[5] نفس المرجع.\
[6] نفس المرجع.\
[7] من مقال للأستاذ عمر احرشان عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية نشر بموقع الجماعة: 26 ماي 2009.\
[8] من حوار أجرته جريدة “المساء” مع الأستاذ فتح الله أرسلان (عدد: 834/2009.5.27).\