الحمد لله الذي انفرد لوحده بالدوام والبقاء، وحكم على سائر خلقه بالموت والفناء، فقال عز من قائل: “كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”. وجعل في رحلة الموت بعد الحياة دروسا وعبرا وابتلاء، فهل من مذكر؟
رحيل الرجل الغريب
بالأمس كان الأستاذ محمد العلوي السليماني رحمه الله يجوب بلاد المغرب طولا وعرضا، داعيا إلى الله، مذكرا بالآخرة أينما حل وارتحل. واليوم ينتقل إلى تلكم الآخرة التي لن يكون فيها غريبا كغربته بين أهل الدنيا. لقد كان ذكر الموت حاضرا عنده على الدوام، وهادم اللذات لازمة في أقواله، فكان شديد الإحساس برحيله التدريجي. إذ كلما فقد شيئا من قوته، أو ضعفت مع السنين حواسه، إلا واعتبر ذلك من علامات الرحيل. فهي أجزاء تسبقه إلى الآخرة كما يقول رحمه الله. ولم يكن الرجل نكرة بين الناس، بل هو في شهرته كعلم فوقه نار. لكن من تعرف عليه أدرك أنه غريب وسط هذه الدنيا. غريب بسمو أخلاقه العالية، وعظم فضائله ومكارمه السامقة. فطوبى لغريب هذه غربته.ليس الغريب غريب الشام واليمن
إنما الغريب غريب اللحد والكفن
مدينة الرجال الثمانية
لقد عرفت مدينة مراكش عند المغاربة بمدينة الرجال السبعة (أو سبعة رجال) من أعلام وصلحاء المغرب الذين تشرفت أرض هذه المدينة المباركة بإيواء جثامينهم رحمهم الله، واليوم بدفن جثمان سيدي محمد العلوي السليماني، يحق لمراكش أن تكنى بمدينة الرجال الثمانية.
لقد فقدت مراكش ومعها المغرب والأمة الإسلامية قاطبة –بموت هذا الرجل- يوم الاثنين الثاني من ذي الحجة 1429هجرية، الموافق لفاتح دجنبر 2008 ميلادية (عن عمر يناهز 77سنة) رجلا مجاهدا، وداعية صالحا مصلحا، وشريفا وقورا من آل بيت النبوة نسبا ودما وسلوكا واتباعا.
المولد والنسب
ولد سيدي محمد العلوي السليماني بمدينة مراكش سنة 1931، من بيت شريف ينتسب إلى الأسرة العلوية الحاكمة بالمغرب عبر جده السلطان مولاي سليمان. لكن تواضعه، وبساطة عيشه، وما تعرض له من اعتقال وتنكيل وتعذيب في سبيل الدعوة إلى الله، تؤكد اختياره لدرب المستضعفين “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين” الآية. وكان شديد التعلق والاتباع لجده الأكبر صلى الله عليه وسلم، كثير الصلاة عليه، إذا ذكره احمر وجهه وفاضت عيناه.
سجنان وثبات
… سجن مرتين في عهد الحسن الثاني: أولاهما بالمعتقل السري درب مولاي الشريف بالدار البيضاء لمدة خمسة عشر شهرا بدون محاكمة، مقيد الرجلين واليدين، معصوب العينين، تحت سياط التعذيب والتجويع إلا ما كان من حجر به عدس (حسب تعبيره رحمه الله) ممزوجا بمختلف أنواع الإذاية والإهانة. وكان ذلك رفقة الأستاذ أحمد الملاخ شريكه في طباعة وتوزيع أشهر رسالة نصيحة في تاريخ المغرب المعاصر يوجهها عالم لملك، إنها رسالة “الإسلام أو الطوفان” التي وجهها الأستاذ المجاهد عبد السلام ياسين للحسن الثاني سنة 1974 وقضى بدوره على إثرها أزيد من ضعف هذه المدة في الاعتقال.
وخرج سيدي محمد العلوي من السجن مصابا بأمراض جلدية، ومعاناة متنوعة حادة، وظروف مادية وأسرية صعبة (أهوال وأحوال لم يكتب لأهل المصالحة المزعومة، والإنصاف المفقود، والحقيقة الوهمية أن يذكروها) … لكن من لطف المولى سبحانه بعبده أن سخر له المرشد المربي بسعة صدره، ودوام دعائه وتودده، إلى أن كشفت الغمة، فإذا بالمحنة تصبح منحة، ويخرج منها الرجل أسدا لا يخاف في الله لومة لائم. وكان الاعتقال الثاني لمدة سنتين ظلما وعدوانا بسجن سلا رفقة أعضاء مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان (1989ـ1991)، يوم حاول النظام المغربي مساومة قيادة الجماعة من داخل السجن، لكن سيدي محمد العلوي ورفاقه لم يكونوا ممن يبيعون الآخرة بالدنيا.
المناقب
من العسير جدا حصر مناقب هذا الرجل، فما من خصلة من خصال الخير إلا وله منها النصيب الأوفر.
كان قويا في صحبته، وفيا لجماعته، صادقا في طلب وجه ربه، ذاكرا لله في مختلف أحواله، باذلا غير بخيل، عالما ومعلما ومتعلما، عاملا بالليل والنهار، ذو سمت عز نظيره، نموذجا في تؤدته، قاصدا مقتصدا حسن التدبير، مجاهدا مقبلا غير مدبر مقداما لا يخاف في الله لومة لائم. جمع له الله من خصال المنهاج النبوي، ومن شعب الإيمان ما لا يجتمع سوى عند الأولياء الكمل.
كلمات
إنها كلمات خرساء عاجزة، لا تفي بحق هذا الرجل العظيم، لكن حسبها أن تحفز من عاشروه ليدونوا إرث النبوة الذي أكرمه الله به. فقد أتى على الأمة حين من الدهر، وحقب من الغفلة والجهل، حتى ظن البعض أن زمن الأولياء قد انتهى، وأن أهل الصلاح قد انقرضوا، وأن اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأخيار، وصحابته الكرام ضرب من الخرافة والخيال. وأن كتب المناقب والطبقات وسير الأعلام، جزء من تراث الماضي الذي دفناه. فاللهم ارحم سيدي محمد العلوي السليماني، واجعله بجوار حبيبه وجده صلى الله عليه وسلم، مع النبئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وألهم أهله وجماعته، وأمته الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.