تجسد الشخصية العظيمة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكمال البشري في أعظم تجلياته وفي كل مستوياته بصورة لم يسبقه إليها أحد من البشر. وهذا أمر مقرر في الدين ومعروف لدى عامة المسلمين فضلا عن علمائهم وصلحائهم. ولا يمكن إحصاء تجليات الكمال النبوي وصوره، ولا غرو في ذلك، فهو صلى الله عليه وسلم دُرَّةُ خلق الله، ولا أعظم توضيحا لهذه الحقيقة من اقتران الشهادة بوحدانية الله سبحانه وتعالى بالشهادة بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله). وقد اعتبر القاضي عياض في درة تأليفاته، كتاب “الشفا”، أن مناقب سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – لا تعد ولا تحصى. ومن أبرز تجليات كمال الشخصية النبوية العظيمة جمعها بين خصلتين عظيمتين من خصال الإسلام هما الاحسان والجهاد. فقد كان صلى الله عليه وسلم سيد المحسنين والمجاهدين وإمامهم، حيث ورد في حديثه الشريف: “أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له”.
لقد أرست سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذين المبدأين العظيمين حيث كانت حياته كلها تبتلا لله عز وجل وعكوفا على بابه، حتى استغربت زوجته الكريمة السيدة عائشة، رضي الله عنها، وسألته بعفوية عن سر استغراقه في العبادة وحرصه البالغ على الطاعة وهو الذي غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ليجيبها حبيب الحق “أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا”. رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تفطرت قدماه من القيام صلاةً في جوف الليل قدم القدوة لأمته وللناس أجمعين أن لا مقام للمؤمن الصادق ولا استقرار لقلبه إلا بالشوق المستمر لجناب المولى العظيم.
كما تجلت في سيرته العطرة الصور الأخرى للإحسان، من إتقان العمل والبر بالخلق أجمعين، كيف لا وهو الذي وصفه ربه جل وعلا بأنه الرحمة العظمى للإنسانية كلها، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء 107). كيف لا يكون كذلك وهو الذي لم يكتف بتمثل الاحسان بل أمر به ونص عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله كتب الاحسان على كل شيء”. فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو إمام المحسنين وسيدهم على الاطلاق ودليلهم إلى رب العالمين.
أما ثاني الخصال العظيمة التي تحققت بها شخصيته صلى الله عليه وسلم فهي الجهاد. إذ منذ بعثته وهو في حركة جهادية دؤوبة لم تتوقف حتى وهو يكابد سكرات الموت، حيث كان يوصي، وهو في هذه الحالة العصيبة، بإيفاد جيش أسامة. فقد جاهد صلى الله عليه وسلم الكفر والجهل والظلم في أعتى صوره وأخطر تجلياته بكل ما أوتي من قوة وصدق وتصديق. جاهد بالكلمة وبالسيف وبالعقل وبالقلب وبالعاطفة. أما جهاد الكلمة فهو فرع عن مهمته النبوية الكلية. فقد بعثه الله مبلغا لرسالته وداعيا إليه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (الأحزاب: 45-46)، وقد أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقها. كما جاهد عليه الصلاة والسلام بقلبه وعاطفته فكان رحيما شفوقا وحريصا على هداية الخلق؛ فقد وروى الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه من حديث أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ :”كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ – وَهُوَ عِنْدَهُ – فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ”.. هذه الحقيقة دونتها يد العناية الربانية بأجمل العبارات وأفصحها في قول الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 128). كما جاهد نبي الله صلى الله عليه وسلم بعقله وأعطى بذلك القدوة للناس كلهم في أهمية احترام هذه النعمة العظمى التي من الله سبحانه وتعالى على الإنسان وجعلها أداة لمعرفته جل وعلا ووسيلة لتمييز البشر عن سائر المخلوقات. فكان عقله صلى الله عليه وسلم المستنير بنور الاحسان مَعْبرا للحكمة الربانية إلى الناس كما كان نموذجا في الإلحاح على ضرورة توظيف العقل في فهم أسرار الوجود وحقائقه واستمداد العبرة مما خلق الله من خلال التفكر فيه دون التيه في تفاصيله. كما كان صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في إبراز أهمية التخطيط وامتلاك الفكر الاستراتيجي في تدبير مختلف وضعيات الحياة، وكأنه عليه الصلاة والسلام استشرف بنور النبوة المودع فيه أن هذه الخصال سيكون إهمالها سببا رئيسا في تردي أمته بعده إلى مهاوي التاريخ. فقد خطط للغزوات بنفسه ووضع لها التفاصيل الدقيقة واستعان بالحكمة البشرية، أيضا، ولم يقف متواكلا على نصر الله وتأييده، بل تمثل دائما النصيحة التي قدمها لأحد صحابته: “اعقلها وتوكل”.
وأخيرا جاهد صلى الله عليه وسلم بسيفه ليعطي القدوة لأمته وللناس بأن حركة المؤمن في الحياة سير دؤوب وعمل دائم لخدمة حقيقة التوحيد وإعلاء كلمة الواحد الأحد. فلم تخل سنوات بعثته صلى الله عليه وسلم من غزوة أو مواجهة مع الكفر والباطل والظلم والعدوان. فكان جهاده المتواصل تأكيدا على أن الجبهة التي ينبغي أن يقف فيها المؤمن بثبات وإصرار وعزيمة ومضاء هي جبهة الحق نصرة لدين الله وللمستضعفين. كما كانت قيادته للجهاد بنفسه إرساء لمبدإ عظيم في الدين يمتحن به صدق المؤمن وولاؤه، هو بذل النفس والمال في سبيل الله واسترخاص كل غال لأجل ذلك.
لقد كانت حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم النموذج الكامل والمثال المتألق لكل طالب حقيقة وطامح في التحقق بكمالات الدين. وهكذا وصفه ربه جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب: 21). كما جعل سبحانه وتعالى محبته رهينة بمحبة نبيه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران: 31).