أعظم نعمة يهبها الوهاب للمصطفين الأخيار من عباده سلامة الصدر؛ فهي جنة الحياة الدنيا ونعيمها، كيف لا وصاحبها ينعم بطمأنينة وراحة بال قل نظيرها في زمن الهرج والبغي.
حثنا المولى الكريم على المسارعة إلى الخيرات، ومنها العفو والصفح، وهو سر سلامة الصدر، قال عز من قائل: سَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران، 133/134)، هي صفة للمحسنين الذين يحظون بالمحبوبية، فالأمر إذن يستحق المسارعة، وإلا فهو الخسران المبين والحرمان الأليم. عن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» (رواه الطبراني وصححه ابن حبان).
محطات قرب يتودد بها المنعم سبحانه، فيغفر ويمحو السيئات، ويقرب إليه من شاء من عباده، فكيف نزهد في هذه العطايا التي لا تقدر بثمن بسبب قطيعة أو شحناء تافهة!؟ وإن معظم المشاحنات لتنتج عن التوافه، فتجد نيران الحقد والكراهية تتأجج في قلب المرء على أخيه لا لشيء إلا لأنه نسي دعوته إلى وليمة، أو بسبب نظرة أو كلمة خرجت من غير قصد فيحملها على الشر وهو يجد لها في الخير محملا، وهو بهذا يظل حبيس ظلمات قلبه لا يبرح مكانه، فيفوته الخير العميم، وقد سبقه الرجال ونالوا الحظوة والزلفى عند المولى الكريم، لذا حذرنا الإمام المجدد رحمة الله عليه من ذلك في تنوير المؤمنات قائلا: «ترتد إحداهن خائبة العزم كليلة الإرادة خامدة الهمة، وتنكص على عقبها، وتتساقط بما أخلت من شرائط الإسلام والإيمان، وبما نفضت يدها من جماعة المؤمنات حين جرحت كبرياء أنانيتها كلمة ناصحة، وحين ضعفت عن تحمل أعباء العمل الجماعي، وحين عيي صبرها عن الإغضاء والتسامح والبر وحسن الخلق» (التنوير، 1/10).
ونحن في هذا الشهر الفضيل حري بنا تعظيمه لمقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشهر شهره. ولنعمل على تطهير قلوبنا وتنقيتها من الأدران بمد جسور المحبة والتواصل مع كل من نزغ الشيطان بيننا وبينهم. ولنا في رسل الله خير قدوة، فما من نبي مرسل إلا وقد تعرض لأذى قومه فما كان منه إلا الصبر والصفح كما بين لنا الله تعالى في القرآن العظيم، بل إنه جلت قدرته أثنى على سيدنا إبراهيم عليه السلام بقوله عز من قائل: وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (الصافات، 83 – 84).
وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سطر لنا معاني الصفح الجميل بخط من ذهب في مواقف عدة من حياته، فهو عليه السلام لما أوذي من طرف قومه، وأخرج من أحب البلدان إلى قلبه، وضرب من طرف صبية الطائف حتى سال الدم من قدميه الشريفتين، لا لشيء إلا لأنه أراد تبليغ دعوة ربه وتخليص القوم من أهوائهم ومن عذاب رب العالمين، تحمل وصبر ورفض الانتقام منهم لما عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، بل قال قولته الشهيرة «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» (صحيح البخاري، 3231)، حتى إنه لما عاد إلى مكة منتصرا فاتحا دخل مطأطئا رأسه حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعا لله عز وجل، وقال: “ما ترون أني فاعل بكم؟” قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: “أقول كما قال أخي يوسف: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (يوسف، 92) اذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه البيهقي).
سلوك إنساني راق منبعث من أنقى قلب وأطهره، ويا سعادة من اقتدى به واستنار بنوره، ونال الأفضلية التي حث عليها صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو قال: “قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان. قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد” (أخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد، 6024).
عمل الصحب الكرام رضوان الله عليهم بمقتضى هذا الحديث الشريف، وتمثلوا بهذا السلوك القويم، ونالوا به الدرجات العلا، فمنهم من بشر بالجنة ثلاثا، ومنهم من كان يتصدق بعرضه على المسلمين كأبي ضمضم رضي الله عنه، ومنهم من عفا عمن طعن في عرض ابنته العفيفة الطاهرة؛ أم المؤمنين، وقال: بل أحب أن يعفو الله عني… وبهذا نالوا الشرف والسيادة وانتصروا على الأعداء.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (الأنفال 62 – 63): «ائتلاف قلوب المؤمنين من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم» (فتح القدير، 2/223). وإلى ذلك أشار الإمام المجدد رحمه الله من أن الشدة على الكفار لا تأتي إلا من الرحمة بين المؤمنين.
ومن ثم فقد سار التابعين وتابعي التابعين من صالحي هذه الأمة وأكابرها على هذا النهج، وعاشوا بقلوب سليمة طاهرة، والقصص في ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى، فقد أوذي ابن تيمية، والإمام أحمد، والإمام الشافعي… وغيرهم كثير، فكان الصفح والعفو ردّهم، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» شعارهم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ** ودافع ولكن بالتي هي أحسن
وهذا الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في زماننا، وقد سجن، وأوذي ووضع في مستشفى الأمراض العقلية وحوصر سنوات في بيته، ومع ذلك كان يَشهد جلساؤه على عفوه وصفحه عن القوم، بل كان يحث من تعرض منهم للإيذاء على العفو والصفح لينالوا الحظ الوافر عند الله عز وجل. قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (فصلت، 34 – 35). لا حرمنا الله من هذا الحظ العظيم.
وبما أن العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، فهذه بعض الأمور التي تساعدنا على التحلم للحصول على القلب السليم بإذن المولى الكريم، فلا نحرم من عفو المولى في شهر شعبان:
1- الدعاء: إن القلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، فلنكثر من التضرع للمولى الكريم الذي يملك وحده قدرة تأليف القلوب، ولا ننسى الدعاء لمن كان بيننا وبينهم سوء تفاهم، فإن العداوة بقدرة قادر تصبح مودة. قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (الحشر، 10).
2- الإقبال على كتاب الله تلاوة وحفظا: فإنه يهدي للتي هي أقوم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (يونس، 57).
3- الإكثار من الكلمة الطيبة “لا إله إلا الله”: إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد وجلاء صدئها الكلمة الطيبة التي يتجدد بها الإيمان.
4- حسن الظن بالناس: فإن الظن أكذب الحديث، ولنلتمس لإخواننا سبعين عذرا.
5- التغاضي عن الزلات: بفضله نستطيع تجاوز العديد من المشاكل التي تعيق المودة بيننا، وذلك بتذكر محاسن من أساء إلينا، وقد قيل: «الهم نصف الهرم وإن نصف العافية التغاضي».
6- تجنب الجدال والمراء وكثرة المزاح: فغالبا ما تكون عاقبته الشجار والخصام، وقد نبهنا الله إلى ذلك بقوله عز وجل: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (الإسراء، 53).