صحب الصحابة- رضوان الله عليهم- رسول الله ﷺ نفسه، وهو من أنفَسِهم، لأنهم خُلقوا لذلك وكانوا أهلا له. نالوا السبق والمعية، واغترفوا من المعين الذي لا ينبض، وارتووا من الحوض الفياض. برهنوا على صدقهم وكانت أطباقهم على مقدار شوقهم له ﷺ، لم تضيع ملازمتهم له ﷺ، ولم تخز طاعتهم له ﷺ؛ جدوا في الطلب، وتحققت لهم البُغية، وبلغوا مجد دار الفناء لما ملكوها وسعادة دار البقاء لما بشروا بالجنة. الرسول ﷺ جواد في الكرم، عادل في العطاء: متع أصحابه بشرف السبق بنفسه، ومنح إخوانه شوق الالتحاق بأنفاسه، مد هؤلاء ويمد هؤلاء من حوضه.
أولا- السابقون صحبوا نفسه ﷺ
هل أتتك أحاديث محبة الصحابة- رضوان الله عليهم- لرسول الله ﷺ؟ شيء تجاوز المألوف، وأمر حير العقول. إلا أن هذا الفعل تجده فصيح المعاني، وواضح المباني لدى أرباب القلوب السليمة، الذين يفقهون بقلوبهم؛ يكاد عقل أصحاب القلوب المريضة والميتة أن يطيش من وقع حقيقة محبة الدواب والشجر والحجر لشخصه ﷺ، محبة شهد لها أنين جدع الشجر الذي أتخذ منبرا للحبيب ﷺ، وسلام حصى الحجر، وبكاء الناقة المعذبة لما أنصفها الأمين ﷺ، وكلام الذئب الجائع الذي أخبر الراعي عن الهادي ﷺ، وفرح الغزالة التي أنصفها. محبة صادقة يحويها القلب السليم، نور الله بها البصيرة، وأضاء بها المسالك الوعرة، والظلمات الدامسة، لأن هذه المحبة كانت اتباع يقظ، لا ابتداع العاشق المسلوب الإرادة لإرضاء المعشوق من البشر. عند البخاري- رحمه الله- في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب حب رسول الله ﷺ من الإيمان؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله رسول الله ﷺ قال: “فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده”. هذه هي محبة أولئك الذين صحبوا نفس رسول الله ﷺ، الذين كان حبهم له اتباعا حقيقيا، وعبادة خالصة، وطاعة دائمة: تعلق بالقلب وتحقق بالجوارح، وتقرب إلى الله طاعة في المكره والمنشط، قال المولى عز وجل: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل أطيع الله ورسوله فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين 1 . كذلك كان الصحابة -رضوان الله عليهم- رهبانا يستمدون المدد من المولى عز وجل في الأسحار، وجوار القرآن الكريم الذي ذرفت عيونهم خوفا من وعيده، واطمأنت قلوبهم رجاء في نعيمه، وفرسانا يؤدون أمانة التبليغ إلى جوار صادق الوعد الأمين ﷺ. جيش انتصر في عراكه الكبير مع النفس، أهون عليه أن يخضع رقاب النفوس المريضة والأمارة بالسوء إلى خالقها وباريها.
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب رسول الله ﷺ؟ ألم يجدهم ضالين فهداهم؟ ووجدهم أعداء فجعلهم بنعمته إخوانا؟ ألم يجدهم أرذل القوم، فجعلهم سادة العالم وقادته؟ ألم يجدهم يهينون المرأة ويزدرونها، فجعلها رسول الله ﷺ شقيقة الرجل في الأحكام؟ ألم يجدهم رعاة للأنعام في فيافي الصحراء، يقطنون الخيام، ويمتهنون التجارة في برد الشتاء وفي حر المصيف، يقرضون شعر الغزل في سوق عكاظ، ويطلُون بها أسوار بيت إبراهيم عليه السلام، بعد أن نصبوا فيها نصبا حجرية على عدد قبائلهم، يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى في مظاهرها، وهي تفصح عن شرك عميق من الجاهلية الأولى، وبعث فيهم ومن أنفسهم رسولا معلما؛ اعترفوا بأماناته، وشهدوا على صفائه ونزاهته؟ قال تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة وإن كان من قبل لفي ضلال مبين. وآخرين منهم لما يلحقون بهم. وهو العزيز الحكيم 2 .
ثانيا- اللاحقون صحبوا أنفاسه ﷺ
كلنا ذلك الرجل، وتلك المرأة، اللذان كانا من قبل بعثة النبي ﷺ في ضلال مبين. ترك فينا ﷺ القرآن المحفوظ الذي به نهتدي، والسنة المصونة التي بها نقتدي. لذلك فإياك أن تسأل المسلم المعاصر عن محبته لرسول الله ﷺ، لأن هذا السؤال قد يعتبره الاستفسار الاستنكاري، والجواب عنه يكون حتما بالإيجاب. وإياك أن تظن أن طيش الحداثة لحق قلبه، وأن أوهام العقلانية خمرت عقله؛ إنما حجب الرؤية ضبابية الفكرة، من جراء أفعال بعض المسلمين ورثة القلوب المريضة والميتة مثلهم: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا. بئس القوم الذين كذبوا بآيات الله. والله لا يهدي القوم الظالمين 3 . قوم كذبوا بآيات الله فأعرضوا عن سننه وأرادوا أن يغيروا الكون بحماقتهم، وآخرون منهم ظلموا أنفسهم لما حرفوا سنة النبي ﷺ واتبعوا الشهوات التي زينتها لهم شياطينهم: أعداء الفطرة، ونقاد الأخلاق، ودعاة الإباحية، ورواد الفتن… فساسوا الناس ظلما بغير ما أنزل الله، وحكموا عليهم ظلما بغير ما قضى رسول الله ﷺ، وغشوهم في الاقتصاد البعيد عن مقاصد الشريعة الإسلامية، دسوا فيهم البغض الطبقي الذي تلقوه من الشيوعية، وشجعوا فيهم الفوارق الاجتماعية التي تعلموها من الإمبريالية؛ أما القرآن الكريم فهو عندهم ميثولوجية قديمة من سوء ظنهم، والسنة عندهم، من قلة فهمهم، من أساطير الأولين.
إياك أن تركن إليهم لأنهم ظالمون، قال الله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون 4 ، فعن أنس قال: قال رسول الله رسول الله ﷺ: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”. إذا فاتتك صحبة نفسه كما حظي بها الصحابة -رضوان الله عليهم- فلا تجعل أنفاسه تفوتك، فهو ﷺ بشر يوحى إليه، نهاك عن الموبقات ودعاك لاجتنابها، ومنحك سنته باعتبارها النموذج البشري الناجح، باعتراف الأعداء والخصوم، وحثك على الأخذ منها ما استطعت، تزكية للنفس، وتعليما للعامة، وحكمة للخاصة. إياك أن تبتغي العزة دون اقتفاء آثار رسول الله ﷺ والتشبث بأذيال سنته ﷺ، فهو أعطاك من غير طلب، وأرشدك من التيه، وحصنك من التخبط؛ ربطك ﷺ بروح السنة، وبمقاصد الهدايه، وبأسباب السعادة دون إلغاء إرادتك ولا طمس أفكارك. طاعتهﷺ عبادة، والاقتداء به أسوة حسنة، والاهتداء به شهامة أبدية.
ثالثا- المعاصرون يتنافسون
إن فاتتك صحبة نفسه ﷺ حيا بين الصحابة- رضوان الله عليهم-، وفاتك التعرض لنفحات أنفاسه ﷺ بين اللاحقين من التابعين والمتأخرين، فإياك أن تبخل على نفسك بالتنافس معهم فيما كانوا يتنافسون عليه. ربما لم تكن مؤهلا ليستعملك الله تعالى مع أولئك أو مع هؤلاء، ولكنه استعملك مع من يريد وهو أعلم بك منك، ربما كنت مع أولئك فتقهقرت أو مع هؤلاء فتراجعت؛ فها أنت وحدك فتمتع بنفسه ﷺ في سنته وبأنفاسه في سيرته.
يا مسلم! يا معاصر! أنت محظوظ ولكن لا تدري، جُمعت لك أحواله مع السلف حيث لا تدري؛ وعرضت عليك مكائد أعدائه وأنت على الأريكة، ووصلتك الأسرار وأنت وراء الستار، وبلغتك الأخبار وأنت في مختلف الأقطار، ووصلتك الأنوار وأنت غارق في الأوثان. عرفت المشاهد وأنت تشاهد المجازر؛ عرفت خيرية هذه الأمة وساهمت في انتكاستها، تعرف أن عليك التبليغ واشتغلت بالتعتيم، حُملت الأمانة ولم تؤدها، حُملت الرسالة ولم توصلها. أمرت أن تأمر بالمعروف ونهيت عنه، وأمرت أن تنكر المنكر فأمرت به. ومع ذلك أنت من أمة الشفيع وتحشر مع الغر الميامين؛ مسلم مدلل، من طرف نبيك الأمين، الذي وفى لك عطاء الشوق، وضاعف لك أجر الود؛ لم تره عيناك إلا في المنام، وهو في قلبك أفضل الأنام.
فكيف تنكر حبا بعدما شهدت
به عليك عدول الدمع والسقم؟
يا أختي! يا أخي! تدعيان محبته ﷺ، فهل نفذتما وصيته؟ أوصى بعدم ضرب بعضكم رقاب بعض، أو تكفير بعضكم بعضا، وبتولية أمور المسلمين خيارهم لا شرارهم، وبإقامة الصلاة وإقامة العدل، وبصيانة حق إماء الله وعباده، وطاعة الأمراء والعلماء في المعروف، وحقن دماء المسلمين، وحفظ أموالهم من الرياء والغلول، والمحافظة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ وأداء أمانة التبليغ وإبراء الذمة من حقوق العباد… فهل أطعت يا مسلم، يا معاصر، يا أختي، ويا أخي؟ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
خاتمة
يا قادة الأمة خذوا اللواء من نبي الأمة، ويا علماء الأمة انهجوا بنا منهاج النبوة، ويا قضاة الأحكام اعدلوا بيننا أسوة بعدالة الماحيﷺ، ويا أرباب الأسر خذوا الأسوة من صاحب الوسيلةـ ويا أيها الأشقاء حققوا بينكم حق الأخوة شوقا لشفيع الأمة، ويا أيها الرجال استوصوا بالنساء خيرا كما أمر الحاشرﷺ، ويا أيتها النسوة صُنَّ نسل هذه الأمة، ويا شباب الأمة الأصفياء أطيعوا المصطفى ﷺ، ويا أيتها الأمة كفى خنوعا، كفى خضوعا، كفى ذلا… ويا نفسي، يا أمارة التحقي بالمحبين أصحاب الهمم العالية، واصحبي أرباب القلوب السامية، لإخلاء القلب، وإفراغه من الحشو، وإعداده لتحل فيه محبة الرحمة المهداة، صاحب الحمد الوافي، طه الطاهر، يس السيد، رسول الرحمة، ورسول الرحمة، ورسول الملاحم ﷺ. يا رسول الله خذ بيدي يا راكب البراق، يا رسول الله نور قلبي فأنت السراج المنير، ويا رسول الله اشفع لي يوم المحشر فأنت الشفيع… اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.