نستغرب كثيرا عندما نرى بعض الوحدات الصناعية عبر العالم توجد خارج نطاق أحكام الحجر والعزل الاجتماعي. بقدر ما هو مستغرب فهو واقع، المنظومة العالمية اليوم هذا شعارها، سواء قبل جائحة كوفيد19 أو مع توسع دائرة الاجتياح، ومرد ذلك أن المنظومة الكونية اليوم يؤطرها نموذج “باراديكم” حضاري واحد يعتقد اعتقادا جازما أن المال يشتري كل شيء، ولعل أطروحة تشييء الإنسان بعد إنهاء مرحلة اغترابه خير دليل على ذلك. لكن لنكن واقعيين، فإذا أغلقت هذه المصانع والوحدات وأقمنا الحجر على الشركات والأموال العابرة للقارات، من يضمن لنا الأموال الضرورية لتنشيط دورة الحياة؟
الحقيقة أننا لا نمتلك الجواب الجاهز، لكن الجميع موقن بأن تغيير المنظومة الاقتصادية، سواء الوطنية أو العالمية، هي بمثابة التفكير في قضايا إعادة الإعمار أو قضايا التحرر والتبعية. لذلك سأضع بين أيديكم بعض الملابسات على سرير التشخيص والتحليل واترك لكم الاستنتاج والبحث عن الإجابة، وهذه بعضها مختصرة:
– هناك وضع عالمي تشكل بشروط ذاتية وموضوعية نعيش صورته النهائية اليوم، يمكن أن ننعته بالهيمنة، وهناك العديد من المفاهيم القريبة منه يستعملها الكثيرون مثل الأمبريالية والرأسمالية والسلطوية وغيرها؛
– وضعية الهيمنة اليوم هي كل شيء ونراها في كل شيء من الخبز إلى السيارة إلى المنزل ومرورا بالمدرسة إلى الصحة، وللأسف نراها حتى في دور العبادة والفعاليات الدينية وفي الطقوس التي كانت إلى عهد قريب تمثل تعبيرا عن سيادة ثقافية وهوية محلية متفردة؛
– الهيمنة بالنسبة للأقوياء مسألة حياة أو موت، لأنها السبيل الوحيد لتصريف ما ينتجونه من أشياء، لذلك ينبغي التفكير والحذر جيدا عند تحليل الشأن الاقتصادي في تغييب تام عن الشروط الحضارية والجيوستراتيجية؛
– صعوبة الوضع في ظل الهيمنة أنك قد تنتج البترول أو غيره من الموارد الثمينة، لكن ليس باستطاعتك تحديد سعر بيعه، وتنتج القمح وليس لك الحق في تناوله وهكذا، بالمقابل أنت مضطر إلى امتلاك أشياء قد لا تحتاجها إلا مرة أو مرتين في حياتك، أو قد لا تحتاجها إطلاقا، ومرد ذلك أن الثقافة الكونية توهم الجميع أن الزيادة المادية للاستهلاك تعني بالضرورة تحسينا لنوعية الحياة؛
– واهم من يظن أن القضية مرتبطة بحالة اجتياح الوباء، بل هي منظومة حياتية تسود، بل تسيطر على كل القطاعات ومناحي الحياة، وهذه المنظومة تتجسد في أقلية عالمية تجمع بين المال والاقتصاد والإعلام والسياسية، وأصبحت الآن تتحكم في الرياضة والفن وما إلى ذلك من مجالات؛
– المجتمع الصناعي ليست أطروحة فقط، بل هو واقع، والهيمنة أو الليبرالية ليست درسا أكاديميا، بل منظومة حياة، تستطيع من خلالها مجموعات بشرية معينة مراكمة الثروة والسلطة هنا وهناك، مع رابط العلاقة الحضارية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مما ينتج ولاء استراتيجيا تؤطره المصلحة وحب الاغتناء. وبالتالي فنقاش الوحدات الصناعية هو نقاش حضاري لأنه بمثابة بحث في المجتمع الما بعد صناعي؛
– قد لا نفهم جيدا معنى الهيمنة عندما نرى أحد أثرياء العرب يشتري قطاعا خدميا بأكمله ليحوله إلى مقاولة خاصة، لأن ذلك أصبح متوقعا، لكن نفهم جيدا معنى الهيمنة عندما يتم توطين وحدات صناعية في مجالات سيادة مجتمعات محلية بمثابة مصدر رزق، قد يكون الوحيد أحيانا، أو تهجير مجتمعات محلية وتجمعات سكنية تاريخية، والتنكيل ببعض ساكنيها المعارضين. والحرص بعد ذلك على تمتيع هذا المجال (المستوطنة) بكل مقومات الحيوية (ربط المواصلات، الطرق، التهيئة، الإعداد الجيد، الخدمات وغيرها)، وجعل الساكنة الأصلية في خدمة مستثمر أجنبي لا يتحمل أدنى مسؤولية اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية؛
– صور الهيمنة مشهودة بشكل يومي في الأحياء والتجمعات السكنية وفي غيرها، وملاحظة بشكل جيد في أحزمة عمارات المضاربة العقارية التي تحيط بأحياء وتجمعات العيش اللا إنساني من البراريك وأحياء الصفيح والبناء العشوائي؛
– المنظومة المهيمنة تسوق وهما أن الاقتصاد والشركات تمول الصحة، أما الصحة فلا يمكن أن تمول الشركات. قد يتم الاعتراض على هذا بنقاش مثالي أو بمقاربة إنسانية على اعتبار أن الإنسان هو الذي يصنع الثروة والاقتصاد والإنتاج، ننبه في هذا الصدد أن مجريات تطور العلم الحديث تدعو إلى صناعة الإنسان نفسه وتصنيع ذكاء لا قبل للعقل بالبشري بمجاراته؛
– قانون المجتمع الصناعي أنه يحق الاستثمار في الجائحة والأزمات باعتبارها سوقا مثل باقي الأسواق، راجع إن شئت كم تزايدت أرصدة وثروات كبار المستثمرين المحليين والدوليين بعد الأزمة الاقتصادية ل 2007، بالمقابل كيف تهاوت أوضاع الفقراء والطبقات الوسطى. لنفهم جيدا أن فاتورة الأزمة يدفعها الفقراء ويستفيد منها الأغنياء حسب درجة غناهم؛
– رغم هذه الوضعية البئيسة هناك إرهاصات التمايز بين الرأسمالية كنظام والرأسماليين كأشخاص، بحيث أن ازدهار أوضاع الرأسماليين لا يوازيه تقدم وضعية الرأسمالية التي أصبحت في وضعية لا تحسد عليها من الانتقاد بسبب نتائجها الكارثية في جل مجالات الحياة: الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛
– الصحة نفسها جزء من لعبة المال والاقتصاد، وإن شئت راجع ملابسات اكتشاف الأدوية واللقاحات، وتوقيت ترويجها، وإعلان المختبرات والشركات المحرزة على الصفقات. وغير بعيد، يمكن الرجوع إلى الجدل الحاصل في فرنسا بخصوص اعتماد الكلوروكين كدواء لمعالجة المصابين بالكورونا؛
– أصحاب رؤوس الأموال اليوم هم الساسة الفعليون أو الحقيقيون، ينعتهم البعض اليوم بالبلطجيون أو الشعبويون أو يجمعهم البعض الآخر في خانة نظام التفاهة، لكن الحقيقة أن غالبيتهم واقعيون وصريحون بما يكفي في خطاباتهم السياسية؛
– حتما سيضيق المكان (الأرض) بهذه السلع والاشياء التي يتسارع العالم لإنتاجها، حينها يصبح التطلع إلى حياة في كوكب آخر من المشاريع المحتملة، وما دام هذا الخيار لا يقبل التعميم على كل بني البشر، إذن هناك إمكانية كبيرة جدا للاستسلام لصوت العقل والإنسانية التي لا يتسع لها إلا كوكب الارض، وكوكب الأرض فقط.
خلاصة القول:
لا صوت يعلو فوق صوت المال والاقتصاد اليوم، وإذا تعارضت مصلحة المال مع غيرها، فالأولوية اجتماعية طبعا في كل الخطابات الرسمية، لكن الأسبقية للمال. وإذا تعطلت الحياة، يتم إنقاذ الشركات والوحدات الصناعية في انتظار إيجاد حلول لقطاعات الخدمات، لكن شريطة أن تكون هذه الحلول موضوعية (تراعي مصلحة الوحدات الصناعية).
الحجر على الوحدات الصناعية قضية منظومة كونية وليست خيارا أو موقفا سياسيا، والتصدي لتحليل ملابساتها يتنافى مع التبسيط والانفعال. لكن لا ينبغي تهويل القضية، لأنه من يراجع التاريخ، يجد أن منطق التحولات والتغيير هو منطق اللا منطق، لأنه لا يخضع للتحليلات المادية فقط، ولعل هناك أشياء أخرى تتجاوز إدراك هذا العقل الذي تمرد عليه العقل نفسه لقصوره عن الانتقال إلى ما بعد الجائحة ومتطلبات القرن 22.