عجبا لراحل مات وما تزود للرحلة! ولمسافر ماج وما جمع للسفر رحله! ولمنتقل إلى قبره لم يتأهب للنقلة! ولمفرط في أمره لم يستشـر عقله!
لا مِرية في الردى ولا جَـدَلُ
العمـر ديْن قضاؤه الأجلُ
للمرء في حتْـف أنفه شغـل
فما تـريد السيوف والأسلُ ؟
يفري الدجى والضحى بأسلحة
سيَّـانِ فيها الدروع والحُلل
كـأس أُديـرت على لـذاذتها
عدل فيها الزُّعاف والعسل
كـل إلى غـاية يصيـر ولا
تمييز إلا الإسـراع والمهل
وسوف تطـوى مسافة ذَمَلَتْ
بقـاطعيها ركـائب ذُلــل
كيـف يَعُدُّ الدنـيا له وطـنا
من هو عنها ينأى وينتقل؟!
نسخو بأعمـارنا ونبخل بالـ
مال فتبَّ السـخاءُ والبخْل!
أضاع راقي الداء العُضال كما
ضيع في سمع عاشق عدْل
ولو نجـا الهـائب الجبان من
الموت نجا في أقدامه البطَل
ما أسلـموا هذه النفـوس إلى
الأجداث إلا إذ ضاقت الحِيَل
ومن حذار تبوأ الكُدْيَة الضَّـبُّ
وأوفى الشـواهقَ الوعْـل
يقاد في عزة الخُبَعْثِنَة الضاري
ويُدهـى في ذلـه الجُـعَل
وهل يرد الأحبـاب إن ظعنوا ؟
على محب أن يندب الطَّلَلُ
إخواني، مرَّ الأقران على مدرجة، وخيول الرحيل للباقين مُسرجة، سار القوم إلى القبور هَمْلَجَة ، وباتت أرواح من الأشباح مستخرجة. إلى كم هذا التسويف والمَجْمَجة ؟ بضائعكم كلها بَهرجة ، وطريقكم صعبة عَوْسَجة ، وستعرفون الخبر وقت الحشرجة .
يا من قد سَاخَ في أوساخ! إلى كم تملي؟ أتعبت النُّسَّاخ، يا من ضيع الشباب وما يسمع العتاب وقد شاخ! بادر صبابة القوى فاستدرك باقي الطَّبَاخ ! وتأهب للرحيل فما هذه الدنيا بمناخ! كم بات مزمار في بيت فأصبح فيه الصراخ!
أين من حصَّنَ الحصون واحترس، وعمَّر الحدائق واحترس ، ونصب سريرَ الكِبْر وجلس، وظن بقاء للنفس فخاب الظن في نَفَس، نازله الموت فلما أنزله عن ظهر الفَرَس فُرِس ، ووُجِّهَ وجهُه إلى ديار البلى فانطمس، وتركه في ظلام ظلمة بين العَيْب والدَّنَس، فالعاقل من بادر الندامة فإن السلامة خَلْس .
لابن المعتز رحمه الله:ألا من لقلب في الهوى غير منته
وفي الغيّ مطواع وفي الرشد مكره
أشـاوره في تـوبة فيقـول: لا
فإن قلت: تأتي فتنة قـال: أين هي؟سابقة القدر قضت لقوم بدليل [سبقت لهم] (سورة الأنبياء، الآية 101)، وعلى قوم بدليل [غَلَبت علينا] (سورة المؤمنون، الآية 106). تلقيح [سبقت] نوَّرَ قلوبَ الجنّ [فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا] (سورة الجن، الآية 1)، وخذلان [غلبت] أعمى بصائر قريش [قالوا أساطير الأولين] (سورة النحل، الآية 24).
إذا هزت صوارمُ القدر تقلقلت رقاب المقربين. غضب على قوم فلم تنفعهم الحسنات، ورضي عن قوم فلم تضرهم السيئات. ما نفعت عبادة إبليس، ولا ضرَّ عنادُ السحرة.
هبت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان، فنقلت الوجود وعمَّ الخبر، فلما ركدت الريح إذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك، وسلمان رضي الله عنه على ساحل السلامة، والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه، وصهيب رضي الله عنه قد قدم بقافلة الروم، وأبو جهل في رقدة المخالفة، وبلال رضي الله عنه ينادي: (الصلاة خير من النوم).
لما قُضِيَت في القِدَم سلامة سلمان رضي الله عنه أقبل يناظر أباه في دين قد أباه ، فلم يعرف أبوه جوابا إلا القيْدَ ، وهذا الجواب المرذول قديم من يوم [حرقوه]، فنزل به ضيف [ولنبلونكم]، فنال بإكرامه مرتبة [سلمان منا].
سمع أن ركبا على نية السفر فسرق نفسه من حرز أبيه، فوقف نفسه على خدمة الأَدلاَّء وقرف الأذلاء ، فلما أحس الرهبان بانقطاع دولتهم سلموا إليه أعلام الأعلام على علامات نبينا صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن زمنه قد أظل فاحذر أن تضل ، وإنه يخرج بأرض العرب، ثم يهاجر إلى أرض بين حرتين ، فلو رأيتموه قد فلا الفلا والدليل شوقه، وخلى الوطن خلاء يزعجه توْقُه.
لأبي العلاء المعري:وأبغضتُ فيك النخل والنخلُ يانع
وأعجبني من حبك الطلح والضَّال رحل مع رفقة لم يرفقوا [وشَرَوْهُ بثمن بخس] (سورة يوسف، الآية 20). فابتاعه يهودي بالمدينة، فلما رأى الحرتين توقد حرُّ شوقه، وما علم المنزل بوجد النازل .
للمتنبي:أيـدري الرَّبـع أي دم أراقا
وأي قلوب هذا الـركب شـاقا؟
لنـا ولأهـله أبـدا قلـوب
تـلاقي في جسـوم ما تـلاقىفبينا هو يكابد ساعات الانتظار قدم البشير بقدوم البشير وسلمان في رأس النخلة، فكاد القلق يلقيه لولا أن الحزم أمسكه كما جرى يوم [إن كادت لَتُبدي به] (سورة القصص، الآية 10)، ثم عجل النزول ليلقى ركب السيارة.
خليلي من نجد قفا بي على الرُّبى
فقد هبَّ من تلك الرسـوم نسيم
فصاح به المالك: ما لك ولهذا؟ انصرف إلى شغلك .
فأجاب لسان وجده:كيــف انصــرافي ولي
في داركــم شـــغـل
فأخذ يضربه، فأخذ لسان حاله يترنم لو سمع الأُطْرُوش :
خليلي لا والله مـا أنـا منكـما
إذا عـلمٌ من آل ليـلى بَدَا ليـا
فلما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم عرض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافقه .
أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال: عبد مناف، وإذا انتسب افتخر بالآباء، وإذا ذكرت الأموال عَدَّ الإبل، وسلمان إذا سئل عن اسمه قال: عبد الله، وعن نسبه قال: ابن الإسلام، وعن لباسه قال: التواضع، وعن طعامه قال: الجوع، وعن شرابه قال: الدموع، وعن وساده قال: السهر، وعن فخره قال: (سلمان منا)، وعن قصده قال: [يريدون وجهه] (سورة الأنعام، الآية 52).
للشبلي رحمه الله:إن بيتــا أنت ســاكــنُه
غيـر محتـاج إلى السُّـرُج
وعـليــلا أنت زائـــرُه
قد آتـــاه الله بالفـــرج
وجــهك المـأمول حجَّتـنا
يوم يـأتي النـاس بالحُـجَج