العتبة الخامسة: لغة الخطاب
توسّلت الوثيقة السياسية بلغة مشتركة، حبلى بكلمات وعبارات وتسميات واضحة الدلالة لدى عموم المتلقين، من قبيل الحقوق ودولة المجتمع وفصل السلط والدولة الاجتماعية ودولة المؤسسات… وعامرة بمفاهيم “حمّالة أوجه” يمكن “ترسيم حدود” لمعانيها لا تصادم الهوية والمرجعية، كما يمكن تحميلها بمطالب مرحلية تناسب الطابع الآني للوثيقة، على شاكلة الديمقراطية والحريات والدولة المدنية وحرية المعتقد…
نعم، لا يمكن لكل باحث في فكر الإمام عبد السلام ياسين، وحتى في تتبع خطاب الجماعة في مراحل أولى من تأسيسها، إلا أن يرصد نوعا من التطور في استعمال كلمات جديدة وتوظيف عبارات ومفاهيم متداولة في الفضاء الألسني والثقافي والسياسي. لينتصب السؤال المتخوّف، وهو تخوف مشروع على كل حال ما اتسم بالاتزان وما لم يصبح جزعا مُربكا أو تشكيكا طاعنا؛ أليس في هذا تخلّيا عن المفاهيم الأصيلة، فتغييرا في المشروع؟
تبديدُ هذا التخوف المفترض، لربّما يتحقق إذا ما استحضرنا:
– أن الجماعة تعرض وثيقة مرحلية، تمتد صلاحيتها بحسب تقديرها لـ10 أعوام، فهي تتوسّل بلغة تناسب أهداف هذه المرحلة وتعبر عنها؛ إذ يتعذر التعبير مثلا بمفهوم الخلافة بما هي أفق استراتيجي عن نظام حكم مرحلي وطني تود تشييده هي والفرقاء.
– أن الجماعة تقيّد عددا من المفاهيم التي وظفتها، والتي تُتداول -غالبا- في الخطاب الإعلامي والسياسي بمعزل عن خلفيتها الفلسفية والفكرية، بأن وضعت لها حدودا دلالية واصطلاحية تعطيها معنى مقبولا في النسق المنهاجي. ولعلّ في جواب الأستاذ محمد حمداوي عضو مجلس إرشاد الجماعة على الحقوقية البارزة الأستاذة خديجة رياضي، حين سألت في الندوة الصحفية عن معنى وحدود حرية المعتقد، وضوحا في ثنائية توظيف المفهوم مع رسم حدود لمداه.
– أن معظم اللغة المستعملة يليق أن نطلق عليها “لغة مشتركة”، محايدة، تقدم دلالات يقبلها الجميع، فلا ضير من توظيفها ولا تخوف من أن تتسرب عبرها أفكار تنسخ المشروع الأصلي.
– أن العدل والإحسان تضع تلك المفاهيم والاصطلاحات ضمن سياقٍ هو الوثيقة السياسية، وضمن أهداف مرحلية هي نظام ديمقراطي يقطع مع الاستبداد، دون أن تتخلى عن مفاهيمها ولا مشروعها. يقول الإمام عبد السلام ياسين “في أفقنا القريب تتراءى لنا الأشكال الديمقراطية وكأنها تنظيم لا بأس به…” إلى أن يقول “أين البديل عن الحكم العاض والجبري الذي عاش المسلمون في ظلامه قروناً طويلة إن لم نأخذ أقرب عصا نضرب بها الأفعى الصائلة؟ مجالس نيابية إذاً، وغلبة أصوات، وأقلية تضمن لها حقوق، وحرية في التعبير والاعتراض والاختلاف، وتداول على السلطة، ودستور، ومؤسسات، واستقلال قضاء” (حوار مع الفضلاء الديمقراطيين ص 70 و71).
إنه في الوقت الذي يرى فيه البعض أن “لغة جديدة” باتت من صلب قاموس العدل والإحسان السياسي، وهو ما يعني -اطرادا- حدوث مراجعة أو قطيعة أو تغييرٍ “غير معلن” في مشروع المنهاج النبوي وتبديل للهوية والمرجعية، نرى أن الأمر لا يعدو أن يكون تطورا طبيعيا في خطاب ما يزال مشدودا إلى أصوله، وتوظيفا مشروعا للُغة هي أقرب إلى الفهم. يقول مؤسس العدل والإحسان رحمه الله “ولا مناص من اقتحام هذه العقبة لنتحدث للناس بما يفهمون”. ويقول “فإذا اصطنعنا لغة يفهمها العقل العام فإن مضمون الرسالة لا مساومة فيه” (مقدمات في المنهاج، ص 5 و41).
ختاما، وجب الانتباه إلى أننا بصدد اجتهاد بشري، وتقدير قلّبته عقول، واطمأنت إليه قلوب، واستشارت فيه مؤسسات. نعم كل فعل بشري في الاجتماع الإنساني، فرديا كان أو جماعيا، تعترضه -خاصة في سياقات ضاغطة- محاذير ومزالق، وهو شيء طبيعي في حركة أي فاعل، وإلا اعتزل الناس واطمأن إلى حوقلته في مكان قصيّ. ليبقى المعوّل عليه؛ استفراغ الجهد العقلي، والتماس شروط التفعيل وأحسنها، ويقظة تقرأ مسار الحركة وتوازنات العلائق بين المرحلي والاستراتيجي، وجرأة على المضي في ذات الاجتهاد وتعميقه أو الارتداد إلى غيره. ففي ميدان التجربة والفعل تُمتحن الرؤى والاجتهادات، لا في دائرة التخوفات والافتراضات.
العتبة السادسة: ركيزة الوثيقة
امتدت وثيقة العدل والإحسان إلى 196 صفحة، توزّعت بعد تقديمٍ مقتضبٍ ومحورٍ همّ منطلقات الجماعة وأفقها التغييري، على ثلاثة محاور خصّت السياسة وقضاياها ثم الاقتصاد وقطاعاته فالمجتمع وفئاته. وقد ضمّنت هذه المحاور وموضوعاتها الكثيرة 777 مقترحا، شمل مختلف التدابير التي رأت أن من شأن العمل بها إخراج البلد من أزماته المتعددة ووضع قدمه على سكّة النهوض.
وفي الوقت الذي سارت فيه الوثيقة على منهجيةٍ ثلاثية، تجمع بين التشخيص المُركَّز للقطاع موضوع الدراسة، فالمداخل الكبرى لعلاج الإشكالات القائمة، ثم التدابير التفصيلية المقترحة للسير الصحيح، لا شك سيقف القارئ للوثيقة على أن المداخل كما المقترحات ليست على ذات القدر من الأهمية والتأثير، وسيدرك سريعا أن مدخل الإصلاح والتغيير الذي تقترحه العدل والإحسان مدخل سياسي دستوري، إذ هو “قطب الرحى” الذي حوله تدور باقي التفاصيل.
لربّما لم يلتقط كثيرون ما أشارت إليه افتتاحية بوابة العدل والإحسان (موقع الجماعة الرسمي على الإنترنيت) التي خصّصتها للحديث عن الوثيقة، حين تحدثت عن “نقطة ارتكاز” الوثيقة؛ إذ إن الجماعة تقترح ““مبادرة سياسية”، تُخرج المغاربة، بقيادة قواهم ونخبهم، من وضع السلبية والتلقّي والتّصديق والتّفاعل (مع تحكم مخزني لا يخفى عبر أدوات الوعد والوعيد) إلى وضع المبادرة والفعل والانطلاق والتأسيس. وضع مغاير يؤسس لمسار جديد، ينطلق من “نقطة ارتكاز” تتمثل في ثلاثية: وثيقة مبادئ فوق دستورية – جمعية تأسيسية غير سيادية – دستور ديمقراطي”.
على النخبة والقوى السياسية، والحالة هذه، أن تعي أن الوثيقة لا تتحدث من داخل بنية السلطة القائمة، ولا تعني بأي صيغة من الصيغ ما ذهب إليه البعض من أن اقتراح العدل والإحسان تصالحي مع الواقع، وهو مقدمة للحصول على حزب سياسي ينشط ضمن قواعد اللعبة القائمة، فيقدم مبادرة سياسية بمنطق “الاستمرارية” أي استمرار الوضع السياسي العام بقواعده الرئيسة مع إصلاحات هنا وتغييرات هناك. بل إن الأمر أكثر عمقا من ذلك، وبكثير، في بنية السياسة وفلسفتها ومقاصدها ومؤسساتها وآلياتها.
إن أي قراءة للوثيقة السياسية، دون استصحاب “نقطة الارتكاز” تلك في قراءة المحاور والمداخل والتفاصيل، من شأنه أن يقدّم قراءة مُجتزأة وغير أمينة لاقتراحات جماعة العدل والإحسان.
العتبة السابعة: طبيعة المبادرة
ونحن نستحضر ذلك، ونُؤسّس عليه، تروم وثيقة الجماعة طرح مبادرة سياسية جديدة في المشهد المغربي الساكن. مبادرة تروم التأسيس لمسار سياسي جديد، ينطلق من إطار دستوري جديد، وينبني على حوار وطني واسع.
بالرجوع إلى الوثيقة في هذه النقطة المركزية، نجد أنها تقترح على الفاعلين العودة إلى مربع البدايات، لنقاش مسألة السلطة التأسيسية الأصلية، هذه السلطة السابقة على كل السّلط، الواضعة للدستور، الرّاسمة خارطة السلط والمؤسسات والسياسات. فالجماعة، المعروفة بمعارضتها الجذرية والسلمية في آن للنظام، لا تسلّم بانفراد الملك بالمبادرة الدستورية ولا باحتكاره لهذه السلطة التأسيسية، لأن ذلك يضع المغرب في خانة الحكم الفردي ويجعل الدستور دستورَ منحة، وتدعو في المقابل إلى اعتماد الأساليب الديمقراطية في وضع الدستور.
هنا، لننظر إلى مقترحات الوثيقة، بغية استيضاح طبيعة مبادرة الجماعة:
– اعتماد شكل “الجمعية التأسيسية غير السيادية”، المنتخبة من الشعب ابتداء والعائدة عليه للتصديق على مشروع الدستور انتهاء.
– اقتراح تقديم مرشّحين مشتركين للجمعية التأسيسية، توسيعا لمساحات التوافق بين الفرقاء واستبعادا لمنطق الغلبة.
– انتخاب الهيئة التأسيسية المُكلّفة بوضع مشروع الدستور الجديد، مع فسح المجال للاقتراح الشعبي ومنح مهلة كافية للهيئة التأسيسية لإعداد المشروع.
– عرض مشروع الدستور على الاستفتاء.
– وحتى نصل إلى هذا المسار الدستوري المقترح، ترى جماعة العدل والإحسان ضرورة الاتكاء على أرضية صلبة هي بمثابة ميثاق وطني جامع تسميه “وثيقة المبادئ فوق الدستورية”، تعكس ما يريده المغاربة لبلدهم.
– كما ترى أن عتبة كل ذلك وقناته الوحيدة هي حوار وطني واسع يجمع كل القوى الحية والغيورة، يفتح النقاش الحر على مختلف القضايا وفي القلب منها هذا المقترح الجّاد.
يتّضح إذا أننا بإزاء مبادرة نوعية جديدة تطرح في الساحة المغربية، مبادرة سياسية تتخذ من المدخل الدستوري نقطة ارتكازها، وهي مبادرة “جذرية” بالنظر إلى طبيعة المشهد السياسي القائم في المغرب والقواعد المستقرة واللعبة المستحكمة.
هذه المبادرة، التي يمكنها أن تشكل تعاقدا سياسيا ودستوريا جديدا، تكرّر جزءا هاما من مقولات “مذكرة إلى من يهمه الأمر” التي أرسلها مؤسس الجماعة الأستاذ عبد السلام ياسين إلى الملك محمد السادس في بداية حكمه، حين حثه، من بين ما حثه عليه، على التخلي عن أسلوب الحكم الفردي بكافة تجلياته وتجنّب تكرار أسلوب “العهد القديم” في الحكم، مقابل إعادة تجديد شرعية الحكم على قواعد مكينة من السيادة الشعبية.