شكلت الأحداث المتتالية التي تعرفها تونس تغييرا كبيرا في المسلمات، أو بالأحرى المغالطات، التي حاول البعض ترسيخها في ذهن المواطن العربي، والممثلة في كون الأنظمة المتحكمة في رقاب البلاد والعباد كتب لها أن تظل جاثمة على أنفاس الأمة ومتحكمة في مسارها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
كما كشفت هذه الأحداث الواقع الهش الذي كانت تقف عليه تونس، مقابل زيف ادعاءات النظام التونسي البائد الذي حاول إيهام الجميع بدعم غربي لما يسمى النموذج التونسي في التقدم والازدهار. هذا الوهم – النموذج التونسي- الذي عمل العديد من مثقفينا وسياسيينا لسنوات عديدة على تسويقه على اعتبار أنه استطاع اجثثاث الحركة الإسلامية ممثلة في حركة النهضة، والتضييق على كل ما يمت للإسلام بصلة وتكميم الأفواه الحرة مقابل الترسيخ المغلوط لما سمي بقيم الحداثة والديمقراطية.
إن أحداث تونس فضحت ازدواجية المعايير التي يتعامل بها الغرب مع القضايا التي تهم الأمة العربية والإسلامية، حيث يغض الطرف عن تجاوزات الأنظمة الاستبدادية في عالمنا العربي والاسلامي بدعوى محاربة الإرهاب والحفاظ على مصالحه الاقتصادية، إذ انتظر طويلا قبل أن يعبر عن موقفه من الأحداث التي تعرفها تونس وإن بشكل محتشم، إلا أن سقوط نظام بن علي أغرى مؤيدي النظام السابق في الداخل والخارج بركوب موجة مطالب الشعب التونسي لكسب وده واختطاف انتصاره حتى يظلوا في الصورة.
فالغرب الذي طبل صباح مساءً للنموذج التونسي هو الذي رفض استقبال بن علي عندما أطاح به الشعب وتركه وحيدا يواجه مصيره بعد أن أصبح ورقة محروقة واستنفد مهامه.
لقد تعودت الأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي أن تفعل ما تريد بالشعب دون أن تلتفت إلى نداءات من هنا وهناك تحذر وتنصح، فبمجرد أن يصل أحد الحاكمين إلى الحكم حتى يضرب عرض الحائط كل الوعود التي قطعها أمام مواطنيه ويعصف بأحلامهم. لقد عمد بن علي وزبانيته إلى إفراغ تونس من رجالاتها ونساءها وزج بالعديد منهم في غياهب السجون ونفى البعض الآخر، وصنع معارضات شكلية لتأثيث ديكوره ووزع خيرات البلاد بين أفراد أسرته وزبانيته. لكن ثلاثة وعشرين عاما من القهر والكبت والتمييع لم تفتّ في عضد الشعب التونسي، كما أنها لن تفتّ في عضد باقي الشعوب العربية عندما تنطلق من عقالها في وجه الظّلَمة نحو التحرر مهما بلغت الأثمان.
فهل ستستفيق الأنظمة العربية من سباتها وتستجيب لنبض شعوبها؟ أم أنها ستضع رأسها في الرمل حتى تجد نفسها في أحد المطارات تنتظر من يستقبلها؟ فمهما قدمت هذه الأنظمة من خدمات الى أسيادها فستجد نفسها في النهاية في مزبلة التاريخ إن لم تتصالح مع شعوبها لأن عين الشعب لا تنام مهما طال الزمن، ولنا في شاه إيران وتشاوسيسكو وموبوتو سسسيكو خير مثال.
لقد ظن بن علي ومن يدور في فلكه أنه استطاع كسر إرادة الشعب التونسي وتدجينه بعد ثلاثة وعشرين عاما من الحكم البوليسي والفردي، وهو نفس الشعور عند باقي الأنظمة العربية التي تتحسس الأوضاع حولها مخافة أن تفاجئها الأحداث كما وقع في تونس وتعصف بها انتفاضات وثورات شعبية. إن هؤلاء يتناسون أن سنة الله في الكون لاتقبل أن يستمرالطغاة في طغيانهم إلى ما لانهاية. قال تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ.
إن إرادة الشعوب أقوى من طغيانهم واستبدادهم، فلا السجون تقهرهم ولا المهرجانات الرخيصة، التي يصرف عليها الملايين من أموال الشعب، يمكن أن تغير اتجاه بوصلتهم نحو الحرية والكرامة والعدالة.
لقد أعطت أحداث تونس الأمل لجميع الشعوب العربية والعالمية أن التغيير ممكن مهما طال الأمد واستكبر المستكبرون، إن النموذج التونسي الذي سطره الشعب، وليس نموذج بن علي، يستحق أن يدرس ويعمم حتى يتعض الطغاة والشعوب قبلهم، أن إرادة الشعوب هي المنتصرة في النهاية. وكما قال أبو القاسم الشابي:إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر