كلما حلّت ذكرى رحيل الإمام المرشد رحمه الله تعالى، إلا هجمت عليَّ مجموعة من الذكريات واللحظات الجميلة، أحببت تدوينها حتى لا تضيع مني مع مرور الزمن.
كنت معه وفي حضرته، هذه المرة سأختار زيارة كانت متميزة في حياتي، زيارة الإمام صحبة أمي.
كان أملي وحلمي أن أحظى بزيارته صحبة الوالدين، وكيف لا أحب لهما ما أحب لنفسي؟
على مر سنوات وأنا أحدث أمي عنه، أخبرها بما تفهم، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب اللهُ ورسولهُ؟” رواه البخاري.
أطلعها كلما سنحت الفرصة على صورته، أو أجعلها تشاهد شريطا له، وكنت حريصا بعد زيارتي له أن أحكي لها عنه، وأنقل لها بعضا من الدرر والغرر التي أظفر بها.
كنت أستكثر من زياراته، كلما وجدت إلى ذلك سبيلا، وأجعل نصب عيني حديثا حفظته عن الإمام رحمه الله في إحدى مجالسة النورانية بالسند العالي، هذا نصه: “عن وهب بن منبه عن طاووس عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي ابن أبي طالب: “يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين، فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة”. فمضى علي فأقام حينا لا يلقى أحدا إلا اتخذه للآخرة”.
علمت بسنة أهل العدوتين، الرباط وسلا وحتى القنيطرة، أنهم كانوا يزورون الإمام أفواجا يوم عيد الفطر، ويخصصون اليوم الثاني لزيارة الإخوة الإثني عشر الذين كانوا يومها يرزحون في السجن المركزي بالقنيطرة.
قلت: أقتفي آثار هؤلاء. ومن فضل الله عليَّ وكرمه أني كنت ألاقي التيسير والتوفيق.
أحببت تلك الزيارات وحرصت عليها، وكنت أنقل مشاعر ما أعيشه لأمي حتى زاد حب الإمام وأزهر في قلب بيتنا.
انتظرت الفرصة وطلبت أهل مدينتي وزان أن أستفيد من زيارة الأحد صحبة أمي، وعلى الفور ظفرت بالدعوة.
صحبتها في رحلة مباركة ميمونة لم نشعر معها بوعثاء السفر ولا كآبة المنظر، فالجو ربيعي جميل، والسماء صافية، يخيل إليَّ أن الكون فرح بهذه الزيارة.
كانت الوالدة تكره السفر لما تلاقيه من تعب ونصب، لكن هذه المرة الأمر مختلف، سألتها وهي جالسة عن يساري متكئة على النافذة، ونحن على مشارف الدخول إلى مدينة سلا، حيث الأقواس:
– ماذا عن رحلتك أمي؟ بعد قبلة وقعتها على رأسها.
الحمد لله لم أشعر بهذه الرحلة، هكذا أجابت، ولسانها لا يفتر عن ذكر الله استعدادا لهذه الزيارة التاريخية الميمونة.
قلت: هي زيارة السعد، هي بركة العمر.
أمي منذ فتحت عيني على الدنيا وجدتها تحافظ على الصلاة، وتصوم الإثنين والخميس، حريصة على النوافل، تكثر من الذكر، كانت قانتة ناسكة بارّة.
حتى يومنا هذا كلما زرتها إلا ذكرتني بأن نصلي قيام الليل جماعة، تحب أن أؤمها، وتطلب مني التمهل والتريث في القراءة.
دخلنا الدار العامرة بسلا، جلست حيث الرجال وجلست حيث النساء، أرمقها من بعيد وقد فسحن لها الطريق، وجعلن لها مجلسا تشعر فيه بالراحة، وقدمن لها وسادة تستند عليها.
فرحت حيث هذه العناية الفائقة بأمي، من طرف أخوات لا يعرفنها، ولا تعرفهن، جمعتنا آصرة المحبة، آصرة الصحبة في جماعة.
دخل علينا الإمام كعادته يمشي على استحياء، هيّن ليّن، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، ينظر إلينا نظرته الحانية، نظرة الأب الرحيم إلى أبنائه وبناته.
سلم علينا وجعل كفه اليمنى يحركها يمينا وشمالا، إشعارا منه بمصافحتنا جميعا.
ولأول مرة ستحظى أمي بزيارته ومجالسته، وفي خيالي ماذا يجول في نفسها هذه اللحظة؟
ها هي ترى شيخا وقورا في عقده الثامن، يلبس جلبابا من الصوف، وجعل فوق هذا الجلباب سلهاما بُنّيا، شديد بياض اللحية، يشع وجهه نورا.
جلس في مكانه المعتاد، وبدأ بتحيته الجميلة: الإخوة الأخوات السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، من منكم يقرأ لنا ما تيسر من الذكر الحكيم؟
اختار ذلك الأخ ما يستفتح به بعناية: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا” سورة النبأ.
عباراته سهلة، يبتعد عن غريب الألفاظ، أسلوبه ماتع وممتع، وأفكاره سلسة، ومعانيه عميقة، أفكاره مترابطة، يقل فيها الحشو والاستطراد، مواعظه وتوجيهاته صادقة وواقعية، وقابلة للفهم السوي والتلقائي، وبلا تكلف، كلامه سائغ يدخل للنفس والقلب قبل العقل.
آية في فن التواصل، كيف تتصور مئات من المؤمنين والمؤمنات، على اختلاف أعمارهم ومشاربهم ومسارهم الدراسي، يخاطبهم جميعا فيفهمون عنه.
وهذه أمي المرأة الأمية تخبرني بعدما أفل نجم لقائنا المبارك حيث سألتها: ماذا استفدت؟ فبدأت تعدِّدُ لي القضايا والقصص والأمثلة، ما جعلني أخجل من نفسي، وهي الأمية، أخاف منها أن تتوجه لي بنفس السؤال، فأقف عاجزا عن جوابها.
قلت لها إذن أسمع منك، قالت: تحدث الإمام عن الآخرة، وكيف ينبغي أن نكون في الآخرة، نستعد لها من الآن حتى نكون “مزيانين” في الآخرة.
قبلت جبينها، وقلت لها بارك الله فيك أمي “تبارك الله عليك”.
وبعد ذلك يا أمي أخذ الإمام رحمه الله ورقة كان قد كتب فيها هذا الحديث، وبدأت أسرده، وكنت قد كتبته في مذكرتي، أرجو حفظه؛ “حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام قال: أخبرني قتادة، عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما آخذ بيده إذ عرض رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين“ صحيح البخاري، كتاب المظالم.
وبدأ يشرح: يقول الله لعبده: أتدري الذنب الفلاني، يقول العبد: نعم، والذنب الفلاني، يقول: نعم، وكل هذا باليوم والساعة والدقيقة والثانية، ثم دعا الإمام بهذا الدعاء: اللهم اجعلنا من الذين يسترهم الله ويضعهم في كنفه.
حمدت الله حمدا كثيرا يليق بجلاله وعظيم سلطانه أن وفق أمي لتنعم بزيارة السعد.