مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب: 23).
مرت سنة كاملة على طوفان الأقصى، وسجل التاريخ صمود المقاومة وبقاءها في الميدان بزعامة كتائب القسام رغم التنكيل والتقتيل والتجويع، والجرح العميق الذي خلفه الدمار في نفوس أحرار العالم، إلا أن الطوفان أعاد المعركة لأصلها، حيث أصبحت معركة أمة بعد استشهاد من استشهد وأسر من أسر من الرجال والنساء والأطفال، فأصبح العدو واحدا؛ الكيان الصهيوني والقوى الإمبريالية المحالفة له، فهلا جمع المسلمون على أتقى قلب رجل واحد؟ وما السبيل لاستنهاض الهمم واستيقاظ أمة من سباتها العميق لدعم القضية واسترجاع الهوية ودعم فلسطين السليبة؟ وما هو البعد الاستراتيجي العميق لحل ما بنا من أزمات ولدحض الظلم واستعادة ما اغتصب؟
تحرير الأمة من الغثائية وداء الأمم
“سنة الله لا تجامل أحدا وحكمه على الغثاء أن لا ينهضوا لجليل من الأمر ما داموا غثاء” 1.
لقد تجذرت فينا جرثومة مرض الغثاء واستفحلت عوامل الانحلال الخلقي، لتغافلنا عن جوهر الدين واتباعنا لسنن اليهود والنصارى شبرا بشبر وذراعا بذراع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: “سيصيب أمتي داء الأمم، فقالوا: يا رسول الله وما داء الأمم؟ قال: “الأشر والبطر، والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي” 2.
“قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: البطر دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها، والتناجش المزايدة في الدنيا والتنازع عليها” 3. تردت الأمة إلى مهاوي الانحطاط بتردي أحوالها وأخلاقها ونظامها السياسي حين ابتعدنا عن القرآن، وجف معين الإيمان، وانتقضت عرى الإسلام أولها الحكم وآخرها الصلاة، واستفحل المرض وتجذر، وعمق الاستعمار النقض حين جزأ الفكر والأوطان وحمل إلى أذهان خريجي مدرسته نبذ الدين والقرآن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن” قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت” 4، وعندما يشتد حب التنافس على الدنيا في القلوب ويصبح تقليد اليهود والنصارى لنا دينا، نهوي إلى دركة الوهن وتتكالب الأمم علينا حتى أصاب الأمة ما أصابها من ويلات.
استعادة الخصال الإيمانية الإحسانية وبناء الشخصية القوية
إذا استطعنا أن نمحص من خلال تاريخنا ونفسيتنا الغثائية ما حل بنا من قريب من استعمار ونهب لخيراتنا وطمس لشخصيتنا الإسلامية واحتلال عقولنا ونفوسنا وحاضرنا ومستقبلنا، نستطيع أن نبصر الخصال الإيمانية الإحسانية التي افتقدناها، ولن نكون أهلا للنهوض لجليل الأمر الذي حل بنا إذا لم نستعدها، وهو المؤامرة ضد الإسلام التي لم تعد دسا خفيا ومكرا مبيتا بل أصبح المكر السيء جليا تعاملا يوميا مع أحداث الحرب والدمار في فلسطين والضفة الغربية ولبنان وغيرهما على مرأى الإعلام الذي يملؤ أسماع العالم. “كمالات العلم، وصدق الإرادة، والصبر على الشدائد في نصر الله. كل هذه أخلاق عليها يعطينا الله النصر، وعلى الأخلاق الغثائية من وهن وخوف لا يتنزل علينا القدر إلا بما نكره” 5.
والشخصية القوية تنمى منذ الصغر في البيت أولا، استطاعت الأم الفلسطينية صناعة أجيال صالحة، من برجها الاستراتيجي تصنع الرجال، وجعلت من هذا البرج “مشتلا لتربية الشجر الطيب، ومنطلقا للبعوث الغازية، لا مجرد ملاذ في الأحضان، ومرفإ للمراكب المنكسرة، ومطعم ومضجع” 6، تغزو منه ولا تغزى، عندما تثمر التربية المسجدية القرآنية الحكيمة، والتربية العلمية التعلمية ينشأ جيل الجهاد، وما أعظم ما رأيناه من بطولات الجهاد عند أطفال غزة وأطفال فلسطين.
والشخصية المرجوة لأبناء المسلمين على منوال أبناء فلسطين، هي تلك الشخصية القوية المندمجة في المجتمع، العارفة بالله، الصادقة والواعية بمسؤوليتها، العالمة بعلم الحق وعلوم الكون، المتميزة بأخلاقها وبعملها الدؤوب، المنتجة المقتصدة، والمجاهدة في سبيل الله ونصرة المستضعفين، والحاملة لرسالة الله للعالمين بالحكمة والموعظة الحسنة. والمدرسة المنتجة لهذه الشخصية المستقيمة تبنيها قبل السواعد القوية، العقول النيرة المدبرة 7.
مشروع التغيير الإسلامي وتوحيد الأمة
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: 11)؛ “تشير هذه الآية في عموم إطلاقها إلى أن المسلم التائب عندما يتغير موقفه من نفسه، ومن خالقه، ومن الكون، وعندما تتغير علاقاته تبعا لذلك الموقف، وأخلاقه وتصوره، يتغير ما به من رذيلة وظلم اجتماعي واستبداد سياسي وعجز اقتصادي، وخمول فكري، وتبعية للجاهلية” 8.
يبدأ التغيير إذن من الإنسان ثم من الأسرة ثم المجتمع والدولة. وبداية النصر الموعود تغيير شامل:
– النصر أم صالحة وأب مسؤول.
– النصر تربية وتعليم ورخاء وتصنيع واستقلال بعلوم الصناعة والأمن الغذائي، والخروج من التبعية لقوى الاستكبار.
– النصر ازدهار اقتصادي وتطهير من الربا والاستغلال والتبذير.
– النصر أن تبنى مصالح الأمة على أصول ثابتة (القرآن والسنة)، مع مراعاة تغيير أحوالنا واختلاف أزماننا وأماكننا.
التغيير إذن أن نندمج ثقافيا وأن نعد القوة بما يضمن القوة، وأن نهاجر الغثاء الموعود بالفناء والموت في حضارة الأمم الآكلة، لأنه يكره الموت جهادا ويحرص على الحياة، أي حياة.
تلك الدروس التطبيقية التي تعلمناها من جيل الطوفان؛ جهاد وصمود وقوة وترهيب للعدو من داخل الأنفاق ومن خارجها، ليس النصر بالسلاح والعتاد والمدرعات، إنما النصر مواقف الرجال وزعزعة اليهود، ورباطة الجأش وإحكام الخطط.
توحيد الأمة: من البشائر التي جاء بها القرآن الكريم: قوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: 110).
ومما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن حبان في صحيحه وجماعة من المحدثين بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل. عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر”، وإن حدث طوفان الأقصى لتجلّ لوعد الله تعالى.
“إن جمع كلمة الأمة وائتلاف قلوبها، وتقريب آرائها، لشروط ضرورية لإقامة الملة وتقوية الدولة… كما يجب الدمج المذهبي والتعايش السلمي بين الآراء والتفاهم والتعاون، ليتحد الناس ماديا ومعنويا” 9.
إن حاجتنا للانجماع على الله ولتأليف القلوب ونبذ الخلاف هي حاجتنا لنصرة إخواننا في فلسطين والطوفان الذي أحيا قضية فلسطين وأعادها إلى أصلها لجدير بالنصر الموعود. سنة الله في الكون أن ينصر عباده الصالحين وعدا عليه حقا إن الله لايخلف الميعاد.
[2] أخرجه الحاكم ووافقه الذهبي.
[3] المصدر نفسه، ص 41.
[4] أخرجه أبو داود وأحمد بسند قوي من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[5] المصدر نفسه، ص 76.
[6] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر-بيروت، ج2، ص 213.
[7] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر-بيروت، ص 159-158. بتصرف.
[8] إمامة الأمة، م. س. ص 180.
[9] المصدر نفسه، ص 258.