في ذكرى مرور سنة على إصدار الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان.. الأولويات والتحديات

Cover Image for في ذكرى مرور سنة على إصدار الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان.. الأولويات والتحديات
نشر بتاريخ

توطئة

في الذكرى السنوية الأولى لإصدار جماعة العدل والإحسان للوثيقة السياسية، تعرض هذه المقالة لنقاش الأولويات والتحديات التي أمام الوثيقة السياسية، من خلال البحث عن مدى تمثل وحضور بعد الأولويات فيها، وتجليات هذا الحضور، ثم من خلال الوقوف عند التحديات التي تعترض مقترحات هذه الوثيقة في طريقها للتنزيل، وسبل تجاوزها.

أولا. منطلقات ومحددات مؤسسة لمعنى الأولويات في الوثيقة السياسية

 في الحديث عن المسوغات التي تدعو للتعرض لمجموع المحددات البانية لحضور معنى الأولويات في عرض وطرح الوثيقة السياسية، تنكشف لنا العناصر التالية:

– الصدور عن المرجعية العامة للمشروع المجتمعي لجماعة العدل والإنسان، والذي عنه ينبع تصورها السياسي، وذلك لأن من الأسس التصورية للفكر المنهاجي الذي تعتمده جماعة العدل والإحسان أداة للعلم وموجها للعمل القول بـ”منطق العلم إمام العمل، والتخطيط مقدمة لازمة للتنفيذ”، لتأتي ترجمة هذا المشروع وفق أولويات تظهر في إطار العمل المنظم بهوية واضحة، وتصورات رؤيوية، ومنهاج عمل مرتب المراحل والوسائل.

– المعنى الذي تقدمه الوثيقة لمفهوم التغيير، الذي لا يقصد به ضربة اللازب الذي تفصم بين عهدين، وتفصل بين وضعين؛ إنما التغيير سيرورة ممتدة لعمل جماعي لا فردي، منظم لا مرتجل، عميق لا سطحي، مستدام لا متقطع، ماض لأهدافه غير ملتفت، ذي نفس طويل لا مستعجل. وهو ما يفرض التخطيط أداة للإعداد والتنزيل، والتربية المتوازنة آلية لصياغة الإنسان وبناء المجتمع المنشود.

– سياق إنتاج الوثيقة الذي أبان عن وجود تطور كبير في المنحى الاقتراحي للعمل السياسي لدى جماعة العدل والإحسان؛ وهي السياقات التي تبرز أن عملية الإنجاز والإخراج والإعلان، كان قرارا ذاتيا للجماعة، لم تتحكم فيه لا ضغوط داخلية، ولا إملاءات خارجية، ولا تسويات معينة، ولا تحولات في التصور أو الموقف، مما يعني أن الجماعة أخذت وقتها الكافي -وباشتغال مؤسساتي تنظيمي- في صياغة الاقتراحات التفصيلية لتصورها السياسي في مجالات الشأن المجتمعي المغربي.

– إن مختلف الدواعي التي دعت لإعداد الوثيقة في بعدها التصوري التنزيلي اقتراحا وإجرائيا، وفي بعدها الدعوي التواصلي حوارا وتفاعلا، تُجلِّي لنا هذا التدرج في ربط التنظير بالممارسة، وفي تجاوز التعميم المخل إلى التفصيل غير الممل، وفي صياغة الأجوبة المناسبة الملائمة لمجابهة تحديات المرحلة من باب تحمل المسؤولية، والإسهام المبادر لمد اليد لصناعة التحول الجماعي المشترك للتغيير في المغرب.

– ما عبرت عنه الوثيقة في تصورها ومقترحاتها من وعي عميق يستحضر السياقات الدولية بتفاعلاتها المتشابكة، والوطنية بإشكالاتها المتداخلة، مما حذا بها في زمن تغول الظلم العالمي، والاستبداد المحلي، والهشاشة الكاسحة لمختلف مناحي المجتمع، إلى عرض آرائها من دون أن تستعدي أحدا، أو تعرض للمُختَلَف فيه من القضايا التي يُضَيِّق التركيز عليها مساحات الالتقاء مع الفضلاء الوطنيين في ظرفية حرجة تتنامى فيها مظاهر التصدع الكلي والانهيار العام لبنية المجتمع.

– فكرة النهوض الجماعي في إطار جبهة مجتمعية التي تتقدم بها جماعة العدل والإحسان مخرج جدير بالاهتمام والتفكير والتطوير والتنسيق والتواصل، وهي بطرحها هذا المدخل التغييري المهم تؤكد غياب النوازع التَّسَلُّقِية، والتسلطية، والرغبة في الانفراد بالحل أو التصدر بزعم إنقاذ البلاد والعباد، وهو ما يعني أن جماعة العدل والإحسان تؤمن إيمانا عميقا أن المرحلة ليست مرحلة المزايدات ولا الادعاءات ولا الاستقواءات؛ لا بالفكر التصوري، ولا بالجسم التنظيمي، إنما أولوية الأولويات لتحمل المسؤولية عبر السعي المشترك لإيقاف النزيف، والتأسيس الجماعي للمستقبل.

ثانيا. تجليات مراعاة بُعد الأولويات في الوثيقة السياسية

في البحث عن مدى حضور بعد الأولويات في بناء مسار الوثيقة، نورد العناصر التالية:

– تنبئ هوية الوثيقة عن موقعها في نسقية مشروع التغيير عند جماعة العدل والإحسان من خلال تحديد هذا الموقع في المنطقة الوسطى بين “مستوى الخطاب الاستراتيجي العام والمستوى التنفيذي التفصيلي” (الوثيقة، ص 11)، وهو ما يجعلها تتميز بنفس ترتيبي متدرج إن كان لا يقف في أبراج “المذهبية” التنظيرية فهو لا يسقط في” البرمجية الانتخابية” بنزعتها التجريبية التجزيئية. ونستطيع أن نفهم من حدود الإطار المكاني والزماني اللذين تغطيهما الوثيقة، ومن اللغة المشتركة الموظفة، وطبيعة المقترحات المقدمة، وشكل التناول المنهجي المعتمد في التشخيص والتحليل والاقتراح، والمنظور الواقعي للنفس الاستشرافي ما يقوي لدى جماعة العدل والإحسان الوعي الذي يدرك برؤية عملية حدود التغيير الممكنة في السياقات الحالية.

– تظهر البنية الهيكلية للوثيقة السياسية اختيارا يرتب على مستوى البناء المنهجي طريقة عرض التصور السياسي وفق منهجية متدرجة قدمت المنطلقات المرجعية وأفق المشروع، وهي عناصر تضع القارئ في صلب هوية الجماعة، وأسس وغايات وأهداف وخصائص مشروعها السياسي، قبل أن تخوض في بسط مقترحاتها وفق ثلاثة محاور تغطي المجال السياسي والاقتصادي الاجتماعي والمجتمعي. ويعكس هذا الاختيار أولويات الجماعة في التغيير؛ إذ بتقديمها الحديث عن الحاجة إلى الحرية والعدل وحكم المؤسسات في المحور السياسي، وإلى العدالة والتكافل والتنمية المستدامة في المحور الاقتصادي والاجتماعي، إنما أظهرت ضرورة توفير البنية العدلية السياسية التي تمكن من ضمان كرامة المجتمع ورفاهيته بمختلف مكوناته ومؤسساته.

– تدل الخاصيات الضابطة للمشروع السياسي الذي تعرضه الوثيقة، والمتمثلة في الأصالة، وتكامل الأبعاد، والوضوح، والنسقية، والمستقبلية، والوسطية والاعتدال، والتدرج والمرونة على البعد التخطيطي للفكر المنهاجي في علاقة الغاية بالأهداف، والمقاصد بالمطالب، والاستراتيجي بالمرحلي، والقطري بالعالمي، والواقع العيني بالأفق المنظور. وهو أمر يزيد توضيح منهج التغيير المراد لدى الجماعة الذي يتقدم إلى مواقع الفعل المجتمعي بهدوء وروية، وبقوة من دون عنف، وبواقعية لا وقوعية، وبصمود متئد يصنع الفرص، ويتعامل مع الواقع بذكاء مرن وفق رؤية تفهم جيدا نسبية الاجتهاد البشري في التطبيق وسعة الشرع في الإمكانات والحلول.

– يعي المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان في أسسه وغاياته ضرورة التدرج وفق منطق يعمل مبدأ الأولويات؛ من هنا تمييزه بين معنى التغيير السياسي ذي السمة المرحلية وبين التغيير ذي السمات الاستراتيجية في الأفق التاريخي المستشرف. ومن أجل هذا يتم التركيز على “أولوية بناء الإنسان بناء أخلاقيا فطريا شاملا” باعتباره “الفاعل في التاريخ، وهو من يصنع السياسة وليست هي من تصنعه” (الوثيقة، 20)، وعلى أولوية البعد الإيماني الذي يصل العبد بربه في هذا البناء، وعلى أولوية التربية في عملية التغيير بما هي “محرك جوهري لعملية التغيير في الفرد والجماعة والأمة” (الوثيقة، 21).

– يغطي ورود بعد الأولويات المجالات الثلاثة التي عرضت لها الوثيقة السياسية، فيتم الحديث عن إعطاء الأولوية لمجالات تدبيرية مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية ومجتمعية، ومن ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر: الحديث عن دولة المجتمع التي تجعل أولى أولوياتها خدمة المجتمع، وعن إعطاء الأولوية للتنمية المحلية والجهوية، وللصحة، وللسياحة الداخلية، وللاستهلاك الداخلي في الصيد البحري، وللتخفيف من عبء استرداد الدين على ميزانية الدولة، ولوضع سياسة تعليمية تنبني على أسس الاستجابة للحاجيات الحقيقية ذات الأولوية للمجتمع المغربي، ولتوجيه البرامج الوطنية في مجال البحث العلمي نحو البحوث ذات الأولوية، ولاعتماد تسلسل للأولويات في توزيع واستغلال الماء. كما يتم الحديث عن التخطيط وفق برامج عمل متوسطة المدى وفق منطق يحدد الأولويات، وعن الأولويات البيئية الوطنية، والأولويات الاجتماعية، وعن أولويات تنموية وتوجهات في الشأن الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وعن التعليم بكونه من أهم الأولويات في المشروع التغييري الذي تقترحه جماعة العدل والإحسان، وعن أولويات المشروع الوطني في الثقافة.

ثالثا. التحديات وسبل التجاوز

يجيب هذا العنوان عن: ما هي التحديات التي تعترض مقترحات الوثيقة السياسية في طريقها للتنزيل؟ وما السبيل لتجاوزها؟ وهي في نظرنا تحديات ذات بعد خارجي، وأخرى ذات بعد داخلي لا بد من تجاوزها حتى يضمن التنزيل السليم لما تقترحه جماعة العدل والإحسان من بدائل ومقترحات لمعالجة الوضع العام للمغرب.

1. تحديات خارجية، وسبل تجاوزها

إن كانت الوثيقة تعرض من منظور رصدي تشخيصي وبنفس اقتراحي تفصيلي عددا هائلا من المقترحات التي تغطي المجالات المعهودة في التدبير السياسي للشأن العام، وفق تصور مرجعي، وبمنطق بنائي تخطيطي، فإنه ليس بوسعنا الإقرار بأن تنزيل تلكم الاقتراحات على نحو يحقق الفاعلية والنجاعة في مثل النسق السياسي المغربي الحالي يمكن أن نتصوره من غير مجابهة التحديات التالية:

– تحدي بنية النظام السياسي، وحل معضلة اللازمة البنيوية المتمثلة في غياب الإرادة السياسية الحقيقية للتغيير الديموقراطي.

– تحدي بنية الفاعل المجتمعي، ومدى وجود الإرادة الصادقة في البناء الجماعي للمغرب المنشود.

– تحدي بنية المجتمع المستقيل من الشأن العام بفعل سنوات التجهيل والقمع والتفقير.

تفرض هذه التحديات:

– السعي لإحداث اختراق في البنية الاستبدادية للنظام السياسي من أجل تهيئة المجال لتغيير حقيقي ديموقراطي عام، نظرا للتعالق التأثيري المعروف لبنية السياسة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية.

– الاجتهاد الجاد في إحداث التحول اللازم في بنية موازين القوى، بما يضمن تقوية الموقع التفاوضي للقوى المجتمعية أمام قوة النظام الحاكم، وتحالفاته الدولية.

– التسلح بالمنظور المنظوماتي الذي يضمن عناصر النسقية والتكامل والانسجام لمختلف أدوات التنشئة المجتمعية.

– الصمود المتئد في اتجاه بناء القوة المجتمعية المتصدية للتغيير الجماعي.

– الاصطفاف إلى جانب الشعب من خلال بناء وتقوية الحاضنة الشعبية التي توفر السند الشعبي.

2. تحديات داخلية، وسبل تجاوزها

ليست الوثيقة، بالنسبة لجماعة العدل والإحسان، بما قدمته من جواب عن سؤال إنقاذ البلاد من منظور تصور رؤيوي لحركة إسلامية مغربية، ولا ينبغي أن تكون، مجرد حدث وقع وانتهى، بل هي إن كانت مثلت فرصة تاريخية مهمة لمسار التغيير في المغرب من منظور الجماعة، فإن عليها أن تمثل فرصة تاريخية أيضا لمسار الوعي والفهم والتجديد والتنزيل للتصور السياسي ذي المرجعية الإسلامية. بل إن عليها خاصة بالنسبة لجماعة العدل والإحسان أن تجسد أداة نوعية لترسيخ الوعي بهذا التصور، ولفهمه، ولتجديده، وتحيينه، كما أن عليها أن تكون فرصة مثلى سانحة لتعبئة الصف الداخلي وتثبيت المنهاج النبوي. من هنا تبرز أهمية:

– الحرص على استمرار وهج حضور الوثيقة في الصف الداخلي، وفي الإعلام، وفي المشهد السياسي العام.

– استمرار التعبئة الداخلية للطاقات والخبراء للتداول وتعميق النقاش عبر آليات مختلفة في قضايا الوثيقة من منظور الاختصاص.

–  التأسيس لخطة واضحة المعالم للتأطير العام والتكوين الخاص، والتدريب العميق، والتواصل والإشعاع.

– الاستمرار في خطاب الطمأنة وتبديد الأوهام الخمسة: وهم الاستقالة والانعزالية، وهم الرغبة في السيطرة والاستفراد، وهم ادعاء الكمال وتضخيم الأنا، وهم الاستعجال لقطف الثمار، وطبعا وضمنا وهم السياسوية الضيقة.

– فتح جسور التداول والنقاش في القضايا المعروضة في الوثيقة مع مختلف الفاعلين.

– المضي في تقوية وتوسيع دائرة العمل المشترك، وتنمية الخطاب التواصلي.

خاتمة

لا يجدي في فهم الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان السقوط في التجزيئية والتشظية في مقاربة مقترحات الوثيقة من خلال إغفال خاصيتي النسقية الداخلية والتكامل البنيوي بين المنطلقات المؤسسة، والمقترحات المعروضة. ولئن كانت الوثيقة ترسخ حقيقة الوضع الخطير للمغرب، وتحذر من انهيار المجتمع، فإنها في الآن نفسه تقر بأن ذلك الوضع، بخطورته تلك، هو أكبر من أن تدعي جهة ما أو يتحمل طرف معين تغييره. وهو ما يعني أن تضافر الجهود أمر حاسم ولازم، خاصة في ما يرتبط بالمضي في نقض أسس الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي، وفضح تهافت أعمدة الشرعية والمشروعية للنظام القائم، وذلك على كافة المستويات وخاصة العلمية البحثية والتدافعية الميدانية، والاشتغال أكثر على تغيير موازين القوى لصالح قوى التغيير الجادة، مع الاستمرار في تقوية الحاضنة الشعبية حضورا وخدمة وتوعية. وإن الوثيقة بما تضمنته من مبادئ، وعرضته من مقترحات لهي فرصة أخرى من الفرص السانحة للاستثمار من أجل التوافق على منطلق أرضية للاشتغال الجماعي لبناء مغرب يجد فيه الجميع حياة الحرية والكرامة والعدالة.