في مراحل الدعوة ومراتبها (1): تَحْييدُ المُتَحامِل

Cover Image for في مراحل الدعوة ومراتبها (1): تَحْييدُ المُتَحامِل
نشر بتاريخ

بين يدي الموضوع

ليست الدعوة مفهوما سكونيا ثابتا، يقتضي نقل المدعوّ من ضفّة إلى أخرى، أو إخراجه من دائرة وإدخاله في دائرة جديدة مغايرة، وانتهت المهمة.

الدعوة مفهوم متحرك لا يتوقف، وسعي مستمر لا ينتهي بانتقال واحد فقط، إنه صيرورة من الانتقالات والتحوّلات التي يجب أن يتمّ اتّخاذها بعين الاعتبار، في وعي الداعية وإدراكه، وفي يقظته واستراتيجيته، حتى يكون على بيّنة من أمره، ومعرفة بمراحل الدعوة، ومراتبها، ودرجاتها، وآفاقها، وحاجياتها المختلفة.

لقد دأبت الحركة الإسلامية على التمييز بين الدّعوة العامة والدّعوة الخاصة. دعوة عامّة تستهدف سائر المسلمين، إلى التوبة وتجديد الانتماء إلى الدين، بلزوم فرائضه، والتشبّث بسُننه وشعائره، وأخلاقه ومعاملاته، فهي دعوة ذاتُ بُعد أخلاقيّ عام، لا ينبغي أن يتوقف عنها كل مؤمن تقي، ولا أن يستغني عنها كل داعية حصيف، ينصح قاطع الرحم بوصله، ويصلح ذات البين بين الناس، ويذكّر الساهي عن صلاته اللاّهي عن فرائضه، ويحفّز على الاستعداد لليوم الآخر، يطرق باب صاحبه في طريقه إلى المسجد، يتقاسم فهم آية، يشارك فضل شعيرة، ويحرّض على الخير والبر والتقوى سائر من يصادفه من المسلمين، كل ذلك بالأدب والرفق الضروريين، وباللطف والذوق اللّازمين.

ودعوة خاصّة، يُقْصَدُ بها، دعوة من ظهر ميلُه إلى الاستقامة، وبرزت رغبتُه في العمل الإسلامي، وأفصح عن استعداد للانخراط في عملٍ منظَّمٍ مسؤول، يحمل همَّ الدعوة ويشارك ضمن مشروعها في حمل همّ الأمة. وهي دعوة تقتضي تدرّجا بالوارد، وحرصا على الوضوح والتميُّز، وتتطلّب بذلًا وصبرًا وحكمة وفهما، ولكن أساسها المكين، ذلك القلب الحاضن المشفق الذي يئنّ في الأسحار على مولاه كي يسدّد خطوَه ويوفق سَعْيَه، ويعينُه في ذلك عقل مستوعب لأساسيات الخطّ الدعوي ولوازمه، عارف بثمنه، مدرك لمنعطفاته، يثبّت كل ذلك التعاون والإجرائية العملية، وتعدُّد عناصر الجذب والاهتمام.

ويمكن توسيع هذا التقسيم، وتحديد فروق أخرى منهجية، تُعينُ على حسن استيعاب تطوُّر مراحل الدعوة، بتطوّر المدعوِّ ونضجِه ودرجة اكتمال تربيته وتعمُّقِ خبرتِه ورسوخ قدمِه.

من دعوة تحاور المختلفَ المُغير على الدعوة المتحامل عليها، والعمل على تقريبه من دائرة الإنصاف والنظر بموضوعية على الأقل، إلى مرحلة يتم الاشتغال فيها على جعل المحايد الجافِّ يميل إلى الحق ويناصرُهُ ابتداءً، ويتعاطَفُ مع أهله ومنهجهم ومواقفهم، إلى مرحلة ثالثة، يتم تركيز العمل فيها على تسهيل إدماج المتعاطف، وعدم الإبقاء عليه في دائرة هامش الفعل وحواشيه، ومنطقة الإعجاب البعيد، عبر دفعه إلى الانخراط الميداني، والانتقال من دفّة الجمهور المتفرّج المتعاطف، إلى غشيان صفوف الفريق والانتماء إليه، ثم بعد ذلك، يتم الانكباب على تفعيل ذلك المُدمَج المُنْظَمِّ إلى الصفوف، عبر التأهيل والتكوين وتحمّل المسؤوليات، والتنبُّه إلى تثبيته وتجذير أصوله التربوية والتعليمية والمهارية، وحسن توظيفها والحذر من تعطيلها، إلى أن نصل إلى مرحلة تثمين ذلك الوتد الراسخ، وترميزه، والإفادة من خبرته، ولو تخلّى عن المهام أو ظهرت لديه عوائق معينة،  لِكِبَرِ سِنٍّ وَوَهَنِ عَظْمٍ، أو بروز من هو أكثر عطاء وأسرع زمنا، وأنفع وأجدى للوقت. لكن منطق الدعوة ليس فيه تقاعد وتنحٍّ، بل هو ارتقاء دائم مستمرٌّ في طُرُق الدعوة وصِيَغِها، والإفادة من رجالاتها الأفذاذ. وهذا ما عملت على صياغته في جملة مركَّبَةٍ على الشكل الآتي: “دعوة تُحيِّدُ المتحامل، وتُعطِّفُ المحايد، وتدمج المتعاطف، وتفعّل المُدمَج، وتوزِّنُ الفاعل”.

فهي إذا خمس مراحل، سأعمل على التطرق إلى كل مرحلة من منها، بالترتيب ذاته الوارد في المقولة بحول الله تعالى:

1- تحييد المتحامل

أنت على جبهة من الدعوة حين تنافح عنها في المنتديات، وتجادل عنها في المجالس والندوات، وتشرحُ وتعلّل، وتوضّح وتبسِّط، وتضرب المثل وتقرب المعنى للأفهام. أنت في جبهة تحتاج مِراسا ودُربة، وأخلاقا رفيعة، ومنطقا قويا، واطّلاعا واسعا، وثباتا وطولَ نَفَس، وذكاءً وفطنةً ونباهة.

لكن، لا يجب عليك أن تغفُلَ عن البديهيات، ومنها اختلاف الطبائع والنفوس، وتفاوت العقول والهمم، وتمايز وتائر التفاعل والاستجابة..

فَمِنَ النّاس من تقنعُهُ الحُجّة، ويميلُ إلى الرُّكون إلى البرهان والدليل، ومنهم من لا يوقظ همّته ويمسك بقياده، إلا نموذجيتك السلوكية، واستقامتك العملية، ومعاملاتك اليومية، فهو لا يؤمن إلا بالمثال الحي الماثل للعيان، ولا يكتمل البرهان والحجة والدليل إذا إلا بك أنت.

ومن الناس، من تكفيه الموعظة البليغة، والحال الجاذبة، فهو إلى الوجدانيات أقرب، وعرض جزاءات الإحسان ومراتب السّبق ومعارج الفوز، هو أكبر مستنهِض ومُحفِّز، والإشارة إلى المهالك والمزالق والمخاوف والمفاوز، أمر يكفيه كي ينزجر ويكفَّ ويكبحَ جماح نفسه، كي تخضع للحق وتُسْلِسَ له القياد.

ولكن من الناس، من لا يحرِّكُه إلا زلزال يرجُّ أرضَ نفسِه واستقرارَ وضعه، كموتِ قريب، أو حُلولِ تَرْحٍ ووقوعِ قرح، وإنها لفرصة ينكسر فيها غلواء النفس، فَتَلين قليلا، أيّاما، أو شهورا، هي الفرصة السانحة لزرع البذور ورعايتها، ولا ينبغي التعويل على استمرار الأثر، فإن من الناس من تسرع بهم نفوسهم إلى سابق الأحوال أو أشد.

فالنفوس إذا مراتب وأحوال، وطبائع ومعادن واستعدادات مختلفة، وجب التنبّه إلى اختلافها من حيث مستوى الاستجابة، ومدى الاستيعاب، ودرجة الإفادة والانتفاع، وحجم القدرة على تبليغ الرسالة وأداء الأمانة، ومما جاء عن النّبيّ صلىّ الله عليه وسلم في تبيان هذا الأمر، ما رواه سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادِبُ، أمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأَصابَتْ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ” 1.

لئن نجحتَ إذا في كبح جماح تحاملٍ على الدين ورموزِه وعلى رجالِ الدعوة وتنظيماتهم، فهي خطوة وأية خطوة.

أن ينتقل المُعادي المتحامِلُ الهاجِم، إلى محايد، يتحرّى الموضوعية ما أمكن، ويعترف بوجودك، وبحقك في الاختلاف عنه، وينتقد بالحجة والبرهان، لا يزيّف ولا يفتري ولا يروم افتياتا وبهتانا، ولا يوظف حطب الليل وتمثلات الجهَلَة وتخرُّصات المُسْتَعْدين، بل يعترف بما يراه منك صوابا بلا تردّد، وينحاز إلى الحق إن ظهر منك بلا ارتياب، ويدافع عن حقك في امتلاك وجهة نظرك الخاصة مهما خالفت ما هو عليه.

أن تنجح الدعوة في إيجاد المحايد الموضوعي، الذي ينتقدك حين يراك مخطئا، ويوافقك المقاربة إن رآها صوابا، لَهُوَ مطلبٌ أصيلٌ من مطالب الدعوة، وهدفٌ نبيل من أهدافها، لكن تضييع الجهود والأوقات في مجادلة الخصوم، والردّ على المتحاملين، ليست إلا واجهة يسيرة من واجهات الدعوة، رغم أهميتها وحساسيتها. فعلى الدعوة ألا تهملها كل الإهمال، وفي نفس الآن، عليها أن تحذر من جعلها الهدف الأكبر وتوليها الأولوية على باقي واجهات الدعوة، فكل واجهة من الواجهات، يجب أن تحوز اهتماما على قدر أهميتها، ويُرصَدَ لها الجهد المناسب لدرجتها في سُلَّم الأولويّات، والتي تخضع بدورها لسياقات تطوّر الدعوة ومؤسساتها، وانشغالات أُطُرِها وكوادرها.

وينبغي الحذر من دوّامة الجدال المُقْسي للقلوب، بل الواجب تجنُّبه ما أمكن، خاصة مع من تبيّن عداؤه السافر المسعور، لدواع نفسية مرضية، أو لوثة شرّ صارت راسخة، أو كان له مع تنظيم الدعوة سابقة أو فضل، تمتنع الدعوة بسببها أن تقطع ما تبقى من خيوط تركتها فرصة ليقظة وإنابة، ولو بعد حين، أما العميل المأجور، الذي لا مهمة له إلا مهاجمة الدعوة واتهام رجالاتها، وتعييب مسارها، والإغارة على كل خطوة تخطوها، فذلك من الواجب أن يُقالَ له في نفسه قول بليغ، أو يتم الإعراض عنه إعراضا كاملا، فوقت الدعاة وجهدهم، أغلى وأسمى من أن يتم تضييعه في معارك لا تنتهي،  وقد تكون استدراجا وملهاة عن الدعوة وواجباتها، بل جُعِلتْ أساسا لإشغالها أو توريطها، أو تحبيط نفوس أبنائها، وتشكيكهم في جهادهم، أو تخويف الناس منهم، عبر الطعن والتسفيه والتكذيب المُمَوّل الموجّه من دهاليز الحقد على الدين ومحاربة الإسلام والمسلمين.


[1] حديث أخرجه البخاري (97) ومسلم (2282).