من أخطر مراحل الدعوة، وأكثرها أهمية وحساسية، مرحلة ما بعد الإدماج، فغالبا ما ينصرف انتباه الدعاة إلى دعوة أعضاء آخرين بغية إدماجهم، تكثيرا لسواد تنظيم الدعوة وتوسيعا لأعضائه وأنصاره، وكأن المهمة تنتهي باستقدام الواردين وإدماجهم وانتهى الاهتمام الكبير والرعاية الحادبة الحريصة.
وفي اعتقادي، أن المرحلة الخطيرة في مسار الوافد الجديد، هي مرحلة ما بعد الإدماج، فالوارد المتحمّس قد تذبل فتيلته وتفتر عزيمته فيحِنّ سريعا إلى سابق العهد والحال، وقد يشعر بالإهمال وتراجع الاهتمام فيخيب أمله في الدعوة وأهلها، فيكون ذلك سببا في الانكماش والانكفاء، إن لم يكن في الفتور والتسرّب، فتضيع بذلك جهود كبيرة لم نحرص على استثمارها والبناء عليها، بل تضيع طاقات كان من الممكن أن تتضاعف وتثمر، ونُحرَم من كفاءات وإمكانات وفرص، بضعف يقظتنا، وسوء تدبيرنا لما منّ الله تعالى به علينا من قلوب وافدة، وعقول واردة، وهمم صاعدة.
ولئن كان الحرص لازما على انتقاء الفسائل الجيدة للدعوة، وتخيُّر الرواحل وأهل التّميّز وأفق البذل والعطاء والنماء، فإنه لا معنى أن نغفل عن توظيف من أدمجناه، وإشراكهم في حمل المسؤولية والمشاركة في أعباء الدعوة وجهودها وواجهاتها، بعد التدريب اللازم، والوقت الكافي، والصيغ المناسبة، والتدرج المطلوب، فإن أخطر ما يتهدد الحركة الإسلامية، تعطيل الطاقات، وتهميش الكفاءات، وضعف تقدير أهل الاقتدار في مختلف المجالات.
ولذلك، ينبغي أن تكون للدعوة أوراش متعددة مفتوحة، ومخطط تكويني تأهيلي لازم، وتخطيط واستشراف عينُهُ على توظيف ما تزخر به صفوف تنظيم الدعوة من طاقات، وما يبرزُ من مؤهلات وكفاءات، مع مراعاة حسن التوظيف وحكمته، مع توسيع الاهتمامات، وانسجام المسارات وتلاقحها.
ذلك، وإلا تحوّلت الطاقات المُعطَّلَة إلى عناصر كبح لآفاق الدعوة، وإثقالٍ لخطواتها، وإهدارٍ لإمكاناتها وفرصها، وقد كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ساطعا منيرا في حسن تقدير معادن الرجال والنساء، وفطنة التنبّه إلى إمكاناتهم وكفاءاتهم، وفعالية اختيارهم وتدريبهم، وتفرّسا في قدراتهم وعطاء المولى لهم، وثقة فيهم، مع ضرورة أخذ ما يلزم من الحيطة والإحاطة في غير تهيّب من إمكانية الخطإ، فإنه لازمة بشرية، وسُلّم للتعلم واكتساب الخبرة، واستجلاب لتمام التوفيق، وانظر رعاك الله كيف اختار سيدنا أسامة بن زيد لإمارة جيش الفتح وهو ابن السابعة عشرة من عمره، وانظر إلى تفرّسه في قيادة سيدنا عليّ كرم الله وجهه وفتح الله له، فقد روى سيدنا سعد بن سعد الساعدي أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال يومَ خيبرَ: “لأُعطِينَّ الرايةَ رجلًا يفتحُ اللهُ على يديهِ فذكرَ أنَّ الناس طمِعوا في ذلكَ فلمَّا كان من الغدِ قال أين علِيٌّ؟ فقالَ على رسلِكَ انفُذْ حتَّى تنزلَ بساحتِهِم، فإذا أُنزِلتَ بساحتِهم فادعُهم إلى الإسلامِ وأخبِرهُم بما يجبُ عليهِم منهُ منَ الحقِّ أو من حقِّ اللهِ فواللَّهِ لَإِنْ يَهدي اللَّهُ بكَ رجلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ” 1.
تكليف وتشريف وتوصية وتعليمات واضحة منيرة، ودعاء وحسن اختيار. ذلك مناط التوفيق والفتح منه سبحانه وتعالى. لا مجرّد دهاء وبراعة تخطيط، رغم ضرورته.
يتعلق الأمر إذا بعملية تنمية مستمرة لمختلف جوانب شخصية الفرد، وبحث دؤوب عن القدرات والطاقات والإمكانيات التي تمتلكها هذه الذات، عبر الاكتشاف والتطوير والصقل وذكاء التوظيف. وتلك هي التربية بمفهومها الواسع.
إن التنمية المُتحدث عنها هنا، لا بد أن ترتبط بعملية أخرى لا تنفك عنها ولا معنى لها بدونها، وهي توظيف تلك التنمية برؤيتها وأفقها ومراميها وأهدافها، إذ ليست هناك تنمية في الفراغ، ولا عبرة بتنمية تصير هي الهدف في حدّ ذاتها، ولذلك فإن للتنمية غاية وأفقا، ولها غايات وأهداف، وإلا فهي شحذ وجداني عبثي سيجد اتجاها ينفجر فيه، أو مجرد شحن فكري وتأثيث عقلي متفلسف لا يفضي إلى عمل ولا إلى نتائج، أو مجرد تجميع لحشد من القدرات والمهارات والمعارف والإمكانيات المعطّلة عن الاشتغال في اتجاه محدد مضبوط..
ولذلك يحسُن برجال الدعوة، أن يربطوا التكوين بحاجيات الدعوة ومهامها وغاياتها والتحديات المطروحة عليها، فترتبط تنمية الشخصية وتربيتها وتأهيلها بمدى فعاليتها في تغيير الواقع، والتغيير مرتبط برؤية ناظمة للدنيا في سلك الآخرة، وللهم الفردي في سلك الهم الجماعي، وللعلم في سكة العمل النافع.
فلا مجال، وفق هذا المنظور، لتضخم فكري أجوف لا ينتج عنه أثر في الواقع، ولا مجال لهيمنة المواجيد وطغيان الأحوال وحيلولتها دون تنهيج الفعل الدعوي وإخضاعه للتخطيط وجودة التدبير والمتابعة والتقويم.
إن تفعيل الإدماج يقتضي أن تتوفّر الدعوة على مدخلات صحيحة وفق مسار مدروس يؤدي إلى مخرجات طيبات مباركات، تثمر فيها الدعوة والتربية والتكوين، فأفضل دعوة ليست هي من “تراكم” أعداد الأعضاء وتحشّد “الأرقام”، بل هي التي تصنع الدعاة وتعدّ أجيالا يرتقي عطاؤها ويتضاعف عائدها. فلا ينبغي أن تغرينا المقاربة الكمّية في النظر إلى نتائج حصيلة الدعوة، وليكن هناك توازن بين تكثير السواد والحرص على النوع، ليس فقط على مستوى “الاستقطاب”، بل أيضا على مستوى فعالية حركية الدعوة الداخلية في تأهيل الأعضاء وتدريبهم وتكوينهم وتجويد فعاليتهم.
ويضيق المجال هنا عن تعداد أشكال التفعيل ووسائله وصيغه وأنظمته، والعبرة في كل ذلك بحضور الرؤية الواضحة، والهدفية المنهجية الراسخة، والإبداع المتجدد، مسايرة لمختلف التطورات والمستجدات. فمن برامج التكوين والتأهيل، والإعداد الاستباقي، إلى التدريب الملبي للحاجيات الملحة والآنية، إلى توسيع دائرة التداول على المسؤوليات والمهام، إلى توزيع هذه المهام، واعتماد مفهوم الإشراك، وتفعيل من ينوب، إلى اعتماد التكوين السريع بتوظيف الصحبة والمصاحبة ومفهوم القرب التأهيلي، وصولا إلى الانفتاح على الإفادة “العَرَضانية”، أي تبادل المواقع، وإعادة انتشار المسؤولين، وضرورة تكامل المؤسسات، عبر التكوين المندمج الذي لا يبني الحاملين للدعوة داخل دوائر ضيقة منغلقة، بل يسعى إلى تأهيل وتخريج كوادر واعية بشمولية العمل، لها حظ مشترك، وقادرة على الاندماج والإفادة والتعاون.
وينبغي ألا يفوت المشتغلين بالتأهيل والتدريب والتكوين، الراغبين في تفعيل المدمجين، وجعلهم حاملين فاعلين، أن يحرصوا على البصمة المميزة لكل عمل صالح مبارك، أن يتفقّدوا اتّجاه البوصلة في كل حين، بالحرص على تثبيت الأساس التربوي، وتصحيح النيّة والتوجّه، وتنقية الشوائب وتجنّب مُحْبِطات العمل.
وإن من أفضل العلامات المُمَيِّزة، التربية على المبادرة وتحمل المسؤولية، وغرس إرادة التكوين الذاتي في النفوس، والتربية على الخدمة والتواضع، فإن من عِقَال المسؤولية: النية والتواضع والخدمة، مراعاة لظروف الدعوة وإمكاناتها وسياقات عملها: إن كان في الساقة ففي الساقة، وإن كان في الحراسة ففي الحراسة، فإن حُبَّ الرئاسات مهدِّمٌ للبنيان كُلِّه، لا قدّر الله، ولذلك ينبغي تصويب القصد وتخليصه، سعيا لكمال العبودية لله عزّ وجلّ، فقد روى البخاري عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ، أَشْعَث رَأْسُهُ، مُغْبَرَّة قَدَمَاهُ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ” 2.
إن تفعيل المدمجين هو حصاد لمختلف الجهود المبذولة في التعطيف والإدماج، وفي التقريب والاحتضان، كما أنه استكمال لحلقات الدعوة والبناء التي لا ينبغي أن تتوقف أو تتراخى، أو نغفل عن إحكام ربطها وتمتين تماسكها.
إن التفعيل يقتضي تعبئة كل واجهات الدعوة، وتحريك كل جبهاتها، من أجل إيجاد مواقع للعمل، ومهمّات للتصدّي، وأهداف للتحقيق، في استجابة وافية لمختلف حاجيات الدعوة وتحدياتها. ذلك أن التفعيل لا يتم إلا في جسم حَيٍّ متحرِّك، يمتلك أفقا واعدا وحيويا، ويرنو إلى النمو والتوسع باضطراد ودَأَبٍ.
إن التفعيل ليس حراكا موسميا، ولا فترات حماسية تشتعل ثم تخبو، لكنه استراتيجية ممتدة تستهدف تنمية مختلف الطاقات وصقلها، وتطوير المواهب والمهارات، وتخريج الكفاءات وتجويدها وتفعيلها. فهو إذا سَعْيٌ متواصل لتعبئة كل القدرات وتوجيهها وتنميتها وحسن توظيفها، استفراغا للجهد الفردي والجماعي الواجب، خدمة لدعوة الله ونصرة لدينه، وقياما بحق خدمة أمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.