قصتي مع “طوفان الأقصى”.. يوم غير عادي تغير معه الزمن وتحولت الوجهة!

Cover Image for قصتي مع “طوفان الأقصى”.. يوم غير عادي تغير معه الزمن وتحولت الوجهة!
نشر بتاريخ

فاتحة القول:

في القدس قد نطق الحجر

وفي مدريد قد خرس البشر

قال البشر أريد رصيفا أجعله مستقر

أقيم فيه نفسي

أحرس فيه الذباب، وأطرد الضجر

قال الحجر:

لا، يا بشر

فحنظلة اليتيم قادم

يقيم الدنى ملاحم

لا ترهبه صواريخ شديدة

ولا قامات مديدة

والطوفان الموعود قادم

من الأقصى إلى الأقصى عارم

في القدس قد نطق الحجر

وبغزة قد خرس البشر.

يوم غير عادي

كان ذلك اليوم، السابع من أكتوبر، بالنسبة لي، يوما عاديا كباقي أيام الله في كونه حتى حدود الساعة الواحدة زوالا أو أقل قليلا… أنهيت أشغالا مكتبية، وصعدت إلى الطابق العلوي من الدار للاستعداد للوضوء لصلاة الظهر. قلت: أفتح التلفاز أطلع على صنع الله في خلقه، فتحته على قناة “المشاكل” و”الصداع”: قناة الجزيرة، كما كانت أمي تسميها، ويا للحدث الضخم الذي يملأ الشاشة، ويملأ معها القلب والعقل والوجدان! وليكون الحدث كالمتنبي، بل أكبر، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس!

أصبح التسمر أمام شاشة “الصداع” جزءا ومحطة مهمة، وطقسا يوميا من معالم البرنامج اليومي. نعم لقد تغير الزمن، وتحولت الوجهة!

زحام في عقلي

في هذه الفترة كانت الأحداث في العالم تتزاحم من حولي، كما تزاحمت في عقلي محاولات فهم الذي سيتغير في هذه الدنيا الموارة: تشابك في الأحداث، أزمات متعددة الأبعاد يقول خبراؤهم… صراع بين أوكرانيا والاتحاد السوفياتي.. لم أعد أفقه سبب اندلاعه، ولا سبب استمراره، ولا المستفيد منه.

 كنت منشغلا بآثار زلزال الحوز الذي أخرج جدتي ذات الثمانين عاما أو يزيد ليقعدها في قفار وبرد جبال تارودانت المهتزة من دون مأوى في انتظار معاونات “المخزن” التي تأتي أو لا تأتي، وحتى إن أتت فمتأخرة كعاداتها أو ناقصة في كمها وجودتها…. ولولا جود الشعب المستضعف للشعب المزلزل لكانت الكارثة أفظع…

 كنت منشغلا أيضا بمراقبة بدايات الاحتقانات، ونُذُر الاحتجاجات في مجال التربية والتعليم التي ستوقف عجلة التعليم المغربي لشهور عدة… سيتوازى الأمر في ذهني: احتجاجات أوقفت عجلة التعليم، وحدث طوفان الأقصى أوقف عجلة التاريخ هناك ومازال يدورها! هل تصح المقارنة؟ لست أدري!

جار مزعج

في طريقي إلى صلاة العصر، بعد أيام تلت طوفان الأقصى، والحرب على أشدها، والقصف نازل حمم الموت الزؤام، قاصفا، قاطفا الحجر والشجر البشر، زعم جاري بيقين المحلل العارف بخبايا الأمور، وقد ذكرت له أن ما يقع في فلسطين قد أبرد نارا متقدة في جوفي منذ زمان من فعل الصهاينة هناك وأتباعهم هنا.. زعم جاري أن الضحية الخاسرة في الأخير هو الشعب الفلسطيني، بينما حماس ورجالاتها والمقاومون، فهم يرفلون في نعيم “الدوحة” وفنادق “المنفى” المزعوم… ثم إن الإسلام أصلا -يدافع الجار- دين تسامح، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه عايش اليهود دون إيذاء… وأن… وأن…

هنا انصدمت بذهنية وعقلية صنعت على أعين جهابذة الوعي الشقي لتغرس الخوف والقعود، وعييت أنا المتمرس -أزعم- بالقراءة والكتابة والتحليل، أن أُفهِم الجار الحبيب، غير الحبيب إذاك، أن من مات دون أرضه فهو شهيد، ودون ماله فهو شهيد، وأن للرجولة في كل زمن ثمنها، وأنه لا يفتي قاعد لمجاهد، وأنه لو جلس مسكين يستريح بعتبة بيته لثار وفار ليطرده مخافة أن يستوطن عتبة الدار، وأن أقصى ما بوسعه فعله أن يصمت… يا حسرة على “الفهامة”!

الطوفان.. طوفان

هل استوعب عقلي الذي وقع؟ هل حقا رد القدر الصاع صاعين للظلم والظالمين؟ على كل حال أحسست بالانتشاء والاستبشار! وليتدبر عقلي كيف يفهم.

 ها قد جاء الله عز وجل بأولي البأس الشديد الذين يسومون القتلة المجرمين المحترفين للخيانة ونقض العهود والإجرام منذ أزل التاريخ الخسف، ويذيقوهم العذاب الأمر كما أذاقوه هم لنا…

هل استوعب عقلي الذي وقع؟ حفنة من الرجال: محاصرون مجوعون، مقتلون، محاربون من العدو البعيد والصديق القريب والخصم المجاور.. يهاجمون أعتى قوة عسكرية استخباراتية مدعومة، فيثخنون فيها قتلا وأسرا وتدميرا، ويمرغون في عفن الذلة والمهانة هيبة السطوة المعتزة بإثم القوة الذاتية والحول الدولي.

هل استوعب عقلي الذي وقع؟ أم أن التاريخ توقف ليصحح حقائقه بعد أن يحطم صورة الجيش الذي لا يقهر، وخرافة العين التي لا تنام، وأساطير الأذن التي لا تخفى عليها خافية دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء؟

غزة الفاضحة

قلت مخاطبا نفسي: ما أعجب هذا الطوفان! بل أعجب به من طوفان! إنه طوفان غزة العزة الفاضحة الواضحة..

 فضحت غزة أساطير صناعة الاثقال إلى الأرض، والرضا بالدونية وبالسوم في السهول الواطية للهمم الهابطة..

فضحت غزة الزعامات المتاجرة بالقضية المتمسحة بالدين، والزعامات الصوتية المناضلة في أرائك العافية والسلامة…

فضحت غزة، إن كنا نحتاج إلى مزيد فضيحة، المساجد المؤممة، والأفواه المكممة.. لم تستطيع أن تنبس ببنت شفة دعاء ينصر المستضعفين، أضعف الإيمان وجهد المقل..

 فضحت غزة وعي الاستلاب والاستيلاء على عقول “تازة” قبل غزة، وأرضنا ومصالحنا قبل مصالح البعيد وإن كان البعيد مقدسا مقدما في ديننا…

 فضحت غزة أباطيل الغناء النشاز الكذوب المتشدق بحقوق الإنسان الكونية، الغافل الصامت عن حقوق إنسان غزة، وطفولة غزة، وامرأة غزة، وهواء غزة، وغذاء غزة، ودواء غزة… لك الرحيم الرؤوف يا غزة!

فضحت غزة أنصاف المثقفين، وأشباه المحللين الصامتين، الخانعين الداخلين جبة إبط السلطان… وليغدو الخرس عن قول الحق، والصمت عن الجهر به حكمة وعقلانية ورعاية مصالح!

ادخلوا عليهم الباب

 فهمت في طوفان الأقصى الذي جاء به الله، والذي من عند الله يكن ويمضه، أن أقدار الله النازلة تحتاج الأيادي والأقدام القدرية التي تبدأ الخطوة الأولى: إرادة ذاتية، بنية صادقة، وأخذ بأسباب هز جذوع النخلة، على صناعة “إنك بأعيننا”، حتى تساقط جني العزة المفتقدة والكرامة المهانة…

ادخلوا عليهم الباب: قدم صدق، بعد سابقة صدق، لتتنزل بركات المولى تخبرنا أن التاريخ أقدار ماضية، وأن الوحي صدق، وأن موعود “الآخرة” أصدق من وعد “الآخر”، وأن زمن “يسوء وجوهكم” وإبان “دخول المسجد” قد أزف رغم الألم النازف.

 لقد أعادت غزة وطوفانها كتابة التاريخ وتوجيهه -بإذن الله الملك الجبار- الوجهة التي تمضي به إلى تحقيق وعد الله بنصره لعباده متى آمنوا واتقوا، وآمنوا وأحسنوا، وآمنوا وجاهدوا…

 لقد أعادت غزة إلى وعيي وثبتت لي فهما كاد أن يطيش وسط فتنة الغثائية السائلة، أنه متى كان الإيمان في القلب، والفهم عن الله في العقل، والأخذ بأسباب “أعدوا لهم” في الحركة والسلوك إلا كان التوفيق والسداد والاهتداء إلى الرشاد..

ولقد ترسخ لدي، وأرجو أن يثبت هذا اليقين، أن الفاعل الله، والصانع الله، وأن طغيان الظالمين كلمح البصر يذهبه الله متى شاء هباء منثورا، وأن النصر مع الصبر، وأن الأهم أن يكون الرجل الإنسان، أما ما يقع في الكون فمدبره حكيم، ثم إن الله عز جلاله، من قبل ومن بعد، غالب على أمره، وأنه بالغ أمره، وأن الأرض أرضه، والملك ملكه يورثهما من يشاء.