مقدمة
إن الحديث عن البحث العلمي حديث عن مسألتين اثنتين: عن البحث بما هو جهد عقلي ذهني فكري نفسي، وجهد عضلي مهاري حركي، ثم عن الطابع العلمي بما هو قواعد، وضوابط، ومنهج، وترتيب وتنظيم. وهو أي البحث العلمي بهذا المعنى يحتاج إلى مناخ وبيئة حاضنة أي إلى رؤية وسياسة وتدبير، ثم إلى حامل فاعل أي إلى الإنسان بناء وإعدادا وتكوينا واحتضانا وتحفيزا وتثمينا، وكذا إلى تمويل أي إلى إنفاق مادي ومالي، وأيضا إلى مخرجات أي إلى تطبيق وإنجاز، وثمرات. فكيف تصورت الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان قضية البحث العلمي وسياسته ضمن عرضها لمحور التربية والتعليم على مستوى الرؤية المؤطرة، والاختلالات المعيقة، والاقتراحات البانية، والمجالات المتناولة؟
أولا. في الرؤية المؤطرة
تتحدد الرؤية المؤطرة لمنظور الوثيقة السياسية لقضية البحث العلمي، بموجهات إن كانت تؤطر بصفة عامة منظورها الأساسي لقضايا التربية والتعليم كلها، فإنها في السياق الخاص لحديثنا عن البحث العلمي ذات أهمية بالغة في فهم الوضع الاعتباري الحاسم للبحث العلمي في تقعيد الأسس الصلبة للنهوض بالتربية والتعليم، والدفع بتنميته على قواعد الاهتداء بنتائجه، والاسترشاد بمخرجاته في مختلف مجالات العمل التربوي التعليمي عوض ما هو حاصل من الضرب على غير علم ولا هدى ولا نهج منير. ويمكن أن نقدم مجملات تلك الرؤية المؤطرة في العناصر الستة التالية:
1. محورية التربية والتعليم في ثلاثية المشروع التغييري، وبناء التعبئة المجتمعية، والإسهام في البناء العمراني الإنساني، ومن تلك المحورية نفهم أهمية العملية الاستثمارية في المعرفة، بما هي ركيزة من آليات الارتكاز الأساسية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، وبلوغ التنمية الاجتماعية. وليس غير البحث العلمي من بوسعه تذليل مسالك الابتكار المعرفي، وفتح أبواب التقدم التقني التي سيمكن ولوجها في عالم العولمة الهاجمة من الحفاظ على مقدرات الكون، وبيئة الأرض، وضمان الأمن الغذائي والمائي، وتطوير الموارد البشرية وتحقيق التنمية المستدامة.
2. جعل مبدأ النبوغ والابتكار أحد المبادئ الناظمة للمدرسة المقصودة، فلا بحث علميا من دون رعاية النبوغ في مستواه الفردي عبر تشجيع الإبداع وتنمية القدرات الإبداعية والابتكارية، أو في مستواه المنظوماتي الذي عليه ربح رهانات التوطين والتطوير، والتحديث والتجديد في مجال البحث العلمي، بما يحقق التقدم التقني والابتكار الرقمي المسهم في خدمة الإنسان.
3. نقد الوثيقة السياسية للتصورات التنموية ذات المنظور التقنوي المادي التي لا تفهم التنمية إلا في أبعادها المادية البحثة غير مكترثة بالأبعاد الروحية والمعنوية التي تمثل جوهر الإنسان الذي يفترض أن تتوجه إليه التنمية في نهاية المطاف. وهي التصورات التي يهمها أساسا عملية تطويع مقدرات الأرض لتكون في خدمة حاجيات الانتشاء الحضاري، والامتلاء المعيشي، والتحصين الدفاعي، فتذهب في مركزة مسلك توجيه البحث العلمي والتقدم التكنولوجي الوجهة التي تخدم متطلبات النمو الاقتصادي والاجتماعي والتنظيمي فقط غير آبهة بأي اعتبار خارج هذه المعايير المحققة للتدبير المعاشي في الفضاء الأرضي المنظور.
4. وعلى أساس عملية نقد الوثيقة للتصور المادي التقنوي للبحث العلمي، تبرز فكرة أهمية المدخل التربوي المجتمعي باعتباره المدخل الثاني من مداخل النهوض بالتربية والتعليم؛ وإذا كان المدخل الأول السياسي يفترض تحقيق السيادة السياسية للقرار التربوي التي تضمن تحرير البحث العلمي من تدخل التحكم السياسي، وتدخل الإملاء الأجنبي بما يضمن إنشاء بحث علمي يستجيب لحاجيات البلاد المستعجلة آنيا ومستقبليا، فإنه لا معنى لبحث علمي لا يستحضر الأبعاد التربوية والأخلاقية للمجتمع، من دون أن يعني هذا الانغلاق الذي لا يستفيد من الحكمة الإنسانية والتجارب البشرية.
5. إذا كان المناخ الضامن للبحث العلمي بما هو تفكير ونهج هو مناخ الحرية، فلقد غصت الوثيقة بمعالم كبرى تمركز الحاجة إلى الحرية، ورفض الاستبداد، والفساد، والبحث عن العدالة والحكامة، والجودة، والنجاعة، والشفافية، والتدبير الجيد، وهي العناصر الحاسمة التي تمكن من توفير البيئة اللازمة لتحرير الإرادة، وتحرير العقل لارتياد آفاق الإبداع والابتكار. طبعا على أن تكون هذه الحرية مسؤولة منضبطة بموجبات أخلاق التسخير والصلاح عوض التحلل من كل ضابط قيمي، أو معيار أخلاقي.
6. مركزية فاعلية العنصر البشري، ومحورية الإنسان في التربية والتغيير، بما هو الفاعل في التاريخ، وصانع السياسة، والغاية من التنمية، وعليه فلا يتصور بحث علمي لا يولي رعاية للباحث المنشغل بهموم البحث العلمي تقديرا لكفاءته، وتوفيرا لظروف العمل الملائمة، وتثمينا للمنتوج العلمي المنجز، وحماية عامة لذاته، بما هو يمثل ثورة قومية يجب أن تصان وتحمى من عوادي الزمان وجور الأنام.
ثانيا. الاختلالات المعيقة للبحث العلمي بالمغرب
على المستوى العام، لا يمكن إخراج وضع البحث العلمي عن دائرة التوصيف العام الذي قدمته الوثيقة السياسية للوضع التعليمي بالمغرب، والذي يتسم بوصف “الكارثة”، والأزمة “المركبة”، وأيضا لن نستطيع عزل الاختلالات التي تمس البحث العلمي بالمغرب كما أوردتها الوثيقة السياسية عن الاختلالات العامة للسياسة التعليمية بالمغرب، فتلك نتيجة من هذه، وهذه سبب تلك، وهي التي تتحدد في ثلاثية مزمنة عنها تولدت كل أعطاب القطاع، ونعني الضبط التحكمي للسلطة السياسية، والارتهان للمؤسسات الدولية المالية المانحة، وافتقاد التصور المجتمعي الأصيل المستجيب للحاجيات.
أما على المستوى الخاص، فيمكن رصد أهم الاختلالات المعيقة للبحث العلمي في البلاد كما أوردتها الوثيقة السياسية في العناصر التالية:
- إن مما يعزز اختلالات المشهد الاقتصادي عدم تشجيع الابتكار والبحث العلمي، ومحدودية الانفتاح على التكنولوجيا الحديثة.
- اللجوء إلى استيراد واستنبات النماذج البيداغوجية الغربية.
- اضطرابات رؤية مشروع إصلاح النظام البيداغوجي الجامعي.
- التدني العام في سلم جودة المكتسبات ومؤشرات المعرفة.
- ضعف الاستجابة لمعايير ومؤشرات جودة التعليم العالي.
- غياب رؤية استراتيجية واضحة لبحث علمي ذي جودة ونجاعة ومردودية.
- تفاقم بطالة الخريجين.
- الهشاشة الملحوظة في البنيات الرقمية كما وكيفا.
وهذه التجليات تمس الوضع الاعتباري للبحث العلمي في نسق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومستوى الرؤية الاستراتيجية التي بغيرها لا معنى ضابط ولا غاية موجهة، كما تضع يدنا على حقيقة وأثر وفاعلية الإصلاحات التي عرفها البحث العلمي، وتكشف البيئة الهشة المحتضنة للبحث العلمي ظروفا وتقنيات، وتبرز لنا منبع ونجاعة البرامج والمناهج والبيداغوجيات، وجدوى المخرجات العامة على مستوى المكتسبات المحصلة وفي مجال الإدماج العام اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، هذا دون نسيان ضعف القدرة التنافسية، وهي كلها تجليات تكون خلاصتها بلوغ المراتب الذيلية في سلم التقهقر الدائم في مختلف التصنيفات الدولية للتنمية.
ثالثا. الاقتراحات البانية لبحث علمي ناجع
تتقدم الوثيقة السياسية بجملة من المقترحات التي تروم بناء بحث علمي ناجع، ويبلغ عدد تلكم المقترحات التي خص بها محور البحث العلمي بشكل مباشر 14 مقترحا من الرقم 657 إلى الرقم 670، بيد أننا نجد مقترحات أخرى في ثنايا تناول قضايا تعليمية أخرى. وعلى العموم فيمكن تصنيف كل تلك الإجراءات ذات الطوابع التأسيسية، والتوجيهية، والتخليقية، والتدبيرية، والاستراتيجية، إلى مستويات عامة أربعة هي:
1. على مستوى سياسة البحث العلمي
بالاستناد إلى الرؤية السياسية العامة الموجهة لحقل التربية والتعليم كما تقترحها الوثيقة يمكن أن نحدد موجهات عامة للسياسة العامة للبحث العلمي تشمل:
أ. جانب الغايات التي يجب أن تستهدف الاستجابة للحاجيات الحقيقية للمجتمع المغربي، وفق مقاربة تتغيا بلوغ التطور والتحديث الذي يساير التقدم العلمي وكذا ما تتطلبه مقتضيات الخطط التنموية المعتمدة.
ب. جانب التأطير القانوني الذي يجب أن يدقق ويضبط التعاقدات في مجال التعاون والشراكة الدوليين بما يضمن سيادة واستقلالية القرار التعليمي.
ج. جانب التخطيط الذي ينحو منحى اعتماد منطق الأولويات، وبرامج العمل متوسطة المدى، والتقويم الدوري، وتنمية الأبعاد الاستباقية.
د. جانب إسناد المسؤولية بناء على معايير الأمانة والكفاءة والقدرة على تفعيل التدبير التشاركي.
وعليه، وتأسيسا على هذه الموجهات في تلك الجوانب، تضع الوثيقة السياسية المقترحات السبعة الخاصة التالية:
1. توجيه البحث العلمي لخدمة أربع غايات أساسية ذات بعد وطني ذاتي، وبعد عالمي إنساني، هي الغايات القيمية، والأهداف التنموية العمرانية، والاستقلال العلمي والخبراتي، والتكافل والتراحم الإنساني.
2. ربط البحث بمجالات التنمية المعرفية والصناعية والاقتصادية، إلى جانب مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.
3. تقدير الوضع الاعتباري للباحثين، وهنا يتم اقتراح الاشتغال على محورين: يهم أحدهما تقدير الكفاءة العلمية باحتضان الطاقات البحثية داخل الوطن، وتوفير بنيات البحث المادية والمعنوية، ويخص الثاني الاشتغال على استرجاع الطاقات المهاجرة بناء على مشروع يضع تدابير تحفيزية تشجيعية تروم في الاعتبار الأول رعاية الباحث المغربي أين ما كان، وتثمين الخبرة الوطنية.
4. تخليق البحث العلمي، وذلك عبر ترسيخ أربع قيم كبرى ضابطة هي: الجدية والمسؤولية والنجاعة والجدوى العملية.
5. التدبير الجيد للبحث العلمي في مستويات ثلاثة تهم القرار السياسي والتسيير الإداري والإنفاق المالي، وبمراعاة قاعدة التوازن بين الأهداف الوطنية الكبرى للدولة والمجتمع ومتطلبات المقاولة المنتجة.
6. التخطيط لامتلاك ناصية التقدم العلمي، بدءا باكتساب الذكاءات الجديدة، وانتهاء بتوطين التقانة، وجعل ذلك أداة للحضور والتنافس في مختلف الميادين.
7. بلورة برنامج وطني للشراكة وتبادل الخبرات مع مراكز البحث العربية والإسلامية منها وكذا الدولية.
2. على مستوى البنية الهيكلية
في هذا المستوى تقترح الوثيقة الإجراءات الأربعة التالية:
1. إحداث مجلس وطني لسياسات البحث العلمي يقوم بمهام ثلاثة كبرى هي وضع السياسة الوطنية في المجال، وتوجيه وتقويم برامج ومشاريع البحث العلمي والتكنولوجي.
2. تجميع مؤسسات البحث العلمي ومعاهده ومدارسه في بنية تنظيمية واحدة، وذلك انسجاما مع رؤية الوثيقة السياسية التي ترى أهمية تجميع مختلف الأسلاك التعليمية والتكوينية في بنية هيكلية ومنظامية موحدة بمنظور وظيفي شمولي مندمج.
3. توحيد وتقوية مؤسسات الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وإحداث جوائز البحث العلمين بما يسمح بتوفير مناخ بحثي محفز.
4. دمقرطة التعليم العالي.
3 . على مستوى التمويل.
إذا كانت الوثيقة السياسية تقترح على المستوى العام تدبير تمويل التربية والتعليم من خلال الإسهام الملائم من ميزانية الدولة، وعبر المشاركة التطوعية المؤسساتية المنظمة للمجتمع، وكذا عبر الانفتاح على التمويل الدولي الذي يراعي مصلحة البلاد، فإنها على مستوى تمويل البحث العلمي تقترح أربعة إجراءات مهمة هي:
1. الرفع من ميزانية الإنفاق على البحث العلمي في ميزاينة الدولة، ومن الناتج الداخلي الخام.
2. ترشيد عملية التمويل بناء على قاعدتي التناسب مع الانتظارات المأمولة، والتعاقد على أرضية أولويات موضوعاتية.
3. تشجيع مؤسسات الإنتاج على الإسهام في تمويل البحث العلمي، من خلال ميزانية خاصة لتطوير مشاريعها البحثية، والدخول في الشراكة مع مراكز البحث العلمي.
4. الإعفاء الضريبي على البحث العلمي.
4. على مستوى لغة البحث العلمي:
لقد دعت الوثيقة إلى الرفع من جودة البحث العلمي، حتى يتمكن من أداء أدواره في التكوين والتأهيل والبحث والتجديد بنجاعة وفعالية، ولعل المدخل اللغوي مهم جدا في بناء تلكم الجودة. وإذا كانت السياسة اللغوية التي بلورتها الوثيقة السياسية تقوم في المستوى العام على التحول التدريجي الذي يحقق الانفكاك عن الاستتباع والازدواجية اللغوية، والتوجه نحو اعتماد اللغة العربية لغة للتدريس، وتنويع اللغات المدرسة، فإنها على المستوى الخاص المرتبط بالبحث العلمي تقترح:
1. في الأفق الاستراتيجي تأهيل وتطوير اللغة العربية، حتى تتمكن من أن تصبح أداة ليس فقط لاكتساب العلوم وإنما لإنتاجها أيضا.
2. في الأفق المرحلي الانفتاح التدريجي على اللغات الأقوى انتشارا في مجال البحث العلمي، في سعي لامتلاك اللغات الحية في العالم باعتبارها لغة مُدَرَّسة وبحث علمي لا لغات تدريس.
3. في الآلية المعتمدة إعمال الترجمة من خلال إعادة النظر في وضعية الترجمة في المنظومة التعليمية والبحثية، وتشجيع النشر والكتاب في مجال ترجمة مختلف العلوم إلى اللغة العربية.
رابعا. مجالات حضور البحث العلمي في الوثيقة
يكشف الاستقصاء المدقق في الوثيقة السياسية، أن حضور البحث العلمي وقضاياه لا يقتصر على الجزء الخاص بمجال التربية والتعليم في المحور المجتمعي، بل إنه حضوره ممتد بشكل عرضاني في كل المحاور والمجالات، وها نحن نورد جملة المقترحات التي تغطي ما يقرب من 18 مجالا من المحاور الثلاثة المعروضة في الوثيقة، ونعرضها في جدول عام لغايات توثيقية.
ولعل هذا الامتداد العرضاني المهم لقضايا البحث العلمي في مختلف المجالات والمحاور لمؤشر مهم على الوظائف التي تنيطها الوثيقة السياسية بالبحث العلمي، ليكون الاشتغال على التغيير المجتمعي العميق والحقيقي واللازم والضروري مبنيا بعد توفر الإرادة السياسية، والتعبئة المجتمعية العامة، وتحفز العامل البشري، على مخرجات البحث الموضوعي العقلاني لا على تخرصات الضرب العشوائي والخبط الارتجالي في كل واد من غير بوصلة موجهة.
خلاصة
تعكس مقاربة الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان لإشكالات البحث العلمي بالمغرب تصورا نسقيا منسجما ومندمجا وشموليا على مستوى الرؤية، والسياسة، والتدبير، والتمويل. وذلك في إطار تشخيصي يرصد الاختلالات العميقة التي يحياها البحث العلمي في سياق الأزمة المركبة لمنظومة التربية والتعليم، ومن خلال منظور اقتراحي يقدم عددا مهما جدا من الإجراءات التي ركزت على تبيئة البحث العلمي، وتوطينه ليستجيب في المقام الأول لحاجيات البلاد الملحة من دون أن يرتهن لتسلط القرار السياسي، أو لتحكم الإملاءات الخارجية، ثم توفير البيئة الملائمة ليكون البحث العلمي القاطرة التي تقود التنمية التي تخدم الإنسان روحيا وماديا، وتحافظ على مجاله الحيوي في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية. والحاصل أن الحاجة ملحة ليستمع العقلاء من الساسة، والفضلاء من الفاعلين، والغيورون من أهل المجتمع لهذه الاقتراحات علها تكون إلى جانب مقترحات أخرى السفينة التي تقود بحثا العلمي العليل إلى شاطئ بر أمان الصحة والعافية في عالم القوم الأقوياء شحيحون بما لديهم من قوة علومية تمنحهم السطوة على مستقبل الضعفاء في زمن التحولات التقنية الهاجمة.