ثانيا: التقييم القانوني والحقوقي لمرحلة التحقيق والمحاكمة
إذا كانت المسطرة أمام الشرطة القضائية في كثير من الأحيان تشوبها عدة خروقات وتجاوزات نظرا لطبيعة هذه الشريحة من المواطنين وتكوينها غير المتأثر بضوابط حقوق الإنسان واحترام كرامته، كما ذهب إلى ذلك آخر تقرير لمنظمة العفو الدولية بشأن الشرطة القضائية في هذا البلد، فإن مرحلة التحقيق والمحاكمة يجب أن تكون مخالفة تماما لذلك الوضع، خصوصا وأن مباشرة المسطرة تتم من طرف أشخاص يفترض فيهم حماية الحريات العامة والفردية للأشخاص.
وعندما تصل يد التعليمات إلى مرحلة التحقيق أو المحاكمة تظهر أولى بوادر المحاكمة غير العادلة والبيزنطية عن طريق خرق حق الدفاع المرتبط أساسا بعدم استقلال المحكمة، مع العلم أن استقلال القاضي وحرمة الدفاع هما أساس المحاكمة العادلة.
قدم الطلبة للاستنطاق الابتدائي لدى قاضي التحقيق يوم 07/11/1991 الذي أصدر قراره بالإحالة على غرفة الجنايات يوم 18/12/1991 وأدرج الملف بجلسة 30/12/1991 كأول جلسة ليؤخر الملف لجلسة مطولة كانت بتاريخ 08 و09 يناير 1992 ليصدر الحكم في الساعات الأولى من يوم 10 يناير 1992.
أحد عشر يوما (11) من التحقيق، وأحد عشر (11) أخرى من المحاكمة كانت كافية للإجهاز على كل مقومات المحاكمة العادلة كما سيأتي بيانه بدءا بحق الدفاع (أولا) قبل الخوض في ظروف المحاكمة (ثانيا) في استحضار تام لشروط المحاكمة العادلة كما هو متعارف عليها دوليا.
1. الحـرمــان من حق الدفــاع
لا يتحقق الدفاع بمجرد حضور المحامي، وإنما هو الحق المرتبط بإنسانية وحرية المشتبه فيه أو المتهم لمباشرة وسائل دفاعه عن نفسه وصولا إلى الحقيقة التي قد تكون اقتناعا ببراءته. والحقيقة أن هذا الحق كان غائبا، بل متواطَأً على تغيبه في هذه القضية بدءا بمسطرة التحقيق وانتهاءا بجلسة المحاكمة، ومن أهم تجليات هذا الحرمان وهذا التغييب ما يلي:
أ- رفض إجراء الفحص الطبي:
ذلك أن الطلبة قدموا أمام الوكيل العام للملك، وأمام قاضي التحقيق في نفس اليوم، وآثار التعذيب بادية عليهم، وواضحة بشكل لا يدع مجالا للشك في كونها لحقتهم في فترة الحراسة النظرية داخل مخافر الشرطة القضائية، ورغم تشبث الطلبة ودفاعهم بحقهم في أن يعرضوا على الفحص الطبي، فإن قاضي التحقيق كان له رأي آخر ضدا على الفصل 89 من قانون المسطرة الجنائية الذي ينص صراحة على أنه “إذا كان هذا الفحص قد طلبه المتهم أو محاميه فلا يمكن لقاضي التحقيق رفضه إلاّ بأمر قضائي مدعم بأسباب”.
فإذا كان لقاضي التحقيق الحق في رفض الطلب شريطة إصدار أمر قضائي مدعم بأسباب، فإنه وعلى فرض صدور الأمر دون تعليل فإن نزاهة وحياد المقرر تصبح موضع شك، ومع ذلك يكون المس بحق الدفاع بينا وواضحا يلقي بسوداويته على عدالة المحاكمة.
وعندما يتم تأييد هذا المقرر من طرف الغرفة الجنحية ودائما دون تعليل كما حدث في ملف الطلبة الحالي، فإن ذلك يكون مؤشرا على مسار المحاكمة منذ البداية.
أما المحكمة فإنها لم تكلف نفسها عناء مناقشة هذا الطلب الذي أثير أمامها كملتمس أولي خلال جلسة 08 يناير 1992 في سابقة خطيرة أمام القضاء المغربي تكرس مبدأ “اللااستقلال”، ويحيد بذلك عما استقر عليه التشريع الحقوقي الدولي في الموضوع إذ تنص المادة 13 من اتفاقية مناهضة التعذيب بأنه “على السلطات أن تضمن إجراءات التحقيقات المحايدة على وجه السرعة في جميع مزاعم التعذيب” وقد أفادت اللجنة الأممية المعنية بحقوق الإنسان أيضا بأنه “على السلطات المختصة أن تتولى التحقيق عل وجه السرعة وبروح الحياة في كل مستوى من وقو ع التعذيب”.
ب- رفض إجراء خــبرة فنــية:
معلوم أن مرحلة التحقيق لم تنشأ لمجرد إعادة النقاش بخصوص ما هو مدون بمحاضر الشرطة القضائية، وبعد ذلك يضرب بهذا النقاش عرض الحائط ويتمسك بمحاضر البحث التمهيدي، فإذا كان كذلك فإنه لن يكون سوى ضحك ساذج على الذقون المظلومة المقهورة، من خلال إنجاز مساطر شكلية خالية من المضمون الحقيقي لمبدإ التحقيق، خصوصا وأن الفصل 86 من قانون المسطرة الجنائية ينص صراحة على أنه “يقوم قاض التحقيق -وفقا للقانون- بجميع إجراءات البحث التي يراها صالحة للكشف عن الحقيقة”.
ففي كل مراحل المحاكمة وكذا أمام قاضي التحقيق تشبث أحد الطلبة بأن التصريح المدون بمحضر الشرطة القضائية لم يصدر عنه وبأن الدم الموجود على قميصه ليس للضحية المقتول وإنما هو دمه الذي لطخ قميصه جراء ما تعرض له من تعذيب أدى إلى بتر خطير في أذنه وكسر في جمجمته.
وهكذا أثيرت مسألة طارئة، ودفاع مشروع أمام قاضي التحقيق وأمام المحكمة قصد إجراء خبرة فنية على الدم الموجود بالقميص للتعرف على فصيلته أهو يخص المتهم -الطالب- أم يخص الضحية.
ومع ذلك فإن كلا من قاضي التحقيق وهيئة الحكم اقتنعت بكون الدم هو للضحية تقديسا لمحضر الشرطة القضائية من جهة، وحرمانا للطلبة من حقهم في الدفاع والاستفادة من الآثار التي قد تنشأ عن تقرير خبرة فنية تفيد أن الدم من فصيلة دم المتهم، الشيء الذي سيجعل الالتفات إلى ما جاء في محاضر الشرطة القضائية صعبا ومستحيلا، وسيجعل تطبيق التعليمات من أجل الوصول إلى الإدانة غاية في الصعوبة.
أرجع لأقول بأن المحكمة اعتمدت على قناعتها في مسالة فنية علمية دقيقة باشر من خلالها الطلبة ملتمسا ودفعا يدخل في صميم حق الدفاع، والحال أن القاضي لا سلطة له في التقرير وبناء القناعة على مجرد التخمين في مثل هذه الحالات.
ومن أهم الاجتهادات القضائية الواضحة في الباب ما ذهب إليه المجلس الأعلى في القرار عدد 2095/7 بتاريخ 20/07/2000 من أن استناد المحكمة على اقتناعها الخاص في مسألة فنية يعد الأمر فيها للخبراء ذوي الاختصاص يجعل قرارها مشوبا بعيب فساد التعليل.
ج- رفض الاستماع لشهود النفي:
خلال مرحلة التحقيق تم الاستماع إلى عشرة (10) شهود كلهم من تيار الطلبة القاعديين -أي خصوم سياسيين للطلبة المتهمين ومنهم من هو موضوع تظلمات وشكاوى من قبلهم- ومع ذلك لم يستطع أحدهم إثبات ما نسب للطلبة من جريمة القتل و…، وبذلك عجز قاضي التحقيق بادئ الأمر في اكتشاف أيّة قرينة تعضد محضر الشرطة القضائية. وبالموازاة لذلك رفض الاستماع لشهود النفي الذين تقدم دفاع الطلبة بلائحتهم والذين كان من الممكن على الأقل إن لم يثبتوا براءة المتهمين أن يضعوا كل الادعاءات موضع الشك الذي سيسفر لصالح الطلبة.
أعود لأقول، رفض قاضي التحقيق استدعاء شهود النفي دون تعليل وقبل أن يكتشف أية قرينة تطمئن وجدانه لمحضر الشرطة القضائية!!
نفس السيناريو سيتم تكراره أمام المحكمة، إذ بجلسة 30/12/1991 كان الدفاع قد تقدم بطلب استدعاء ذات الشهود المتمسك بهم في مرحلة التحقيق، إلى جانب شهود الادعاء العشرة، حتى تتم مناقشتهم شفاهيا أمام المحكمة، لكن هذه الأخيرة قررت بنفس التاريخ رفض طلب الدفاع استدعاء شهود النفي، وأمرت باستدعاء شاهد واحد من بين شهود الادعاء.
حقيقة أن المحكمة الجنائية تتمتع بسلطة تقديرية في قبول استدعاء الشهود من عدمه، لكن الأمر عندما يتعلق بجريمة القتل مع سبق الإصرار، فإن الوصول إلى الحقيقة يقتضي فتح الباب لمباشرة الدفاع بكل الوسائل المشروعة، خصوصا وأن رفض وسيلة من وسائل الدفاع -ومن أهمها استدعاء شهود النفي- يدل دلالة قوية إما على أن المحكمة تتعمد حرمان المتهم من حقه في الدفاع لخلفيات قد تكون سياسية أو إديولوجية أو قد ترتبط بعدم استقلال القضاء، وكلها مساس بضمانات المحاكمة العادلة، وإما أن المحكمة قد شكلت قناعتها في الملف قبل مناقشته مع المتهم وتمكينه من فرصة الدفاع عن نفسه، وبالتالي يكون رفضها لطلب استدعاء شهود النفي إصدار حكم بالإدانة قبل أوانه وهذا منتهى ضرب حقوق الدفاع عرض الحائط وخرق المبادئ الدولية للمحاكمة العادلة.
ومن الجدير بالاعتبار الإشارة إلى أن المادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على أن “لكل إنسان الحق على قدم المساواة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة، نظرا عادلا للفصل في حقوقه والتزاماته، وأية تهمة جنائية توجه إليه”.
وقد أشارت المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلى أنه “لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته وعلى قدم المساواة التامة بالضمانات الدنيا التالية:
هـ- أن يناقش شهود الاتهام، بنفسه أو من قبل غيره، وأن يحصل على الموافقة على استدعاء شهود النفي بذات الشروط المطبقة في حالة شهود الاتهام”.
أن المحكمة مصدرة الحكم في مواجهة الطلبة قد حرمتهم من حقهم في مناقشة شهود الإثبات شفاهيا وحضوريا في جلسة المحاكمة وحرمتهم إضافة إلى ذلك من حقهم في الاستماع لشهود النفي.
2. خرق مــبدإ علانـية الجلســات
العلانية واحد من أهم مبادئ المحاكمة العادلة، حيث نصت المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “كل متهم بريء حتى تثبت إدانته قانونا، وبمحاكمة علنية تؤمن فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه”.
ونصت المادة 14 في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنه “من حق كل فرد أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مستقلة حيادية منشأة بحكم القانون”.
وهو ما كرسه مشرع المسطرة الجنائية المغربي في الفصل 301 بتنصيصه على أنه “يجب أن تكون الإجراءات في الجلسة، و كذا المناقشات علنية وإلا يترتب البطلان عنها للإخلال بذلك”.
إذن فكل جلسة يخرق فيها مبدأ العلنية الذي يؤطر أكبر ضمانات المحاكمة العادلة لمباشرتها تحت رقابة المجتمع وعينه تكون باطلة، لأن العدالة لا تقتضي أن يقتنع القاضي بالإدانة أو بالبراءة وإنما تفترض أن يقنع القاضي مساعدي القضاء من خلال إعمال قواعد الحكم العادل، وأن يقتنع المجتمع في جلسة علنية تترك إجراءاتها ومناقشاتها الانطباع حول مصداقية حكم المحكمة.
وبمقتضى هذا المبدإ تكون المحاكمة ملكا للمجتمع الذي من حقه أن يتناقل أخبارها عبر وسائل الإعلام وتمارس الصحافة سلطتها المعنوية لإرغام القاضي على التحسين من أدائه.
فعندما يكون القاضي نزيها وهيئة الحكم تواقة إلى احترام قواعد المحاكمة العادلة، فإنها تدافع قبل كل أحد على علانية المحاكمة لما تضمنه لها هذه الأخيرة من وقاء من خضوعها للتعليمات وإملاءات الأحكام الجاهزة.
إن هذه الدوافع هي التي تجعل القاضي في فرنسا مثلا إذا ما أثير أمامه الدفع بانعدام علانية الجلسة يخرج ليطوف بأرجاء المحكمة وجنباتها ليتأكد من أن لكل مواطن الحق في ولوج المحكمة دون قيد أو إكراه.
لكــن، بتاريخ 08/01/1991 كان للمواطنين الذين سولت لهم أنفسهم الاستفادة من مبدإ العلانية والحضور لجلسة المحاكمة؛ موعد مع الهراوات وعصي رجال الأمن، وامتلأت بهم مخافر الشرطة بوجدة لثنيهم عن حقهم في الحضور وممارسة رقابتهم المجتمعية المعنوية.
ورغم إثارة الدفع من طرف الدفاع بشكل نظامي وفق ما جاء في الفقرة الأخيرة من الفصل 301 من المسطرة الجنائية، فإن الأمر لم يكن ليغير شيئا من عزم هيئة الحكم التي مارست كل موجبات بطلان حكمها تحت ضمانات قوية تجعلها بعيدة عن كل مساءلة لتصدر حكما أقل ما يقال فيه إنه الوجه المكتوب لمحاكمة غير عادلة كما سيأتي بيانه لاحقا.
سعيــد بــــوزردة
محام الطلبة الاثنى عشر
عضو الهيئة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان