قضية معتقلي العدل والإحسان في ميزان حقوق الإنسان (6)

Cover Image for قضية معتقلي العدل والإحسان في ميزان حقوق الإنسان (6)
نشر بتاريخ

ثالثا: التقييم الحقوقي للأساس الموضوعي لقرار الإدانة

سبقت الإشارة إلى أن إحدى عشرة يوما كانت كافية لإصدار حكم أبسط ما يقال عنه كونه باطلا شكلا لخرقه كل قواعد المحاكمة العادلة، فهو لم يحترم علانية الجلسات وخرق مبدأ حق الدفاع وأظهر تبعية ظاهرة لمؤسسات خارج إطار قناعة القاضي وبالتالي عدم حياد هيئة الحكم.

هذه القناعة الأولية المرتبطة باستقراء شكليات وظروف المحاكمة أرخت بظلالها على موضوع القرار القاضي بالإدانة والذي لم يكن مبنيا على أساس موضوعي سليم، ليس فقط من ناحية عدم احترامه لقواعد الإثبات كما جاءت بها المسطرة الجنائية من اعتبار محاضر الضابطة القضائية مجرد بيانات في القضايا الجنائية ومن أن المحكمة تبني قناعتها على ما راج أمامها اعترافا وإنكارا حسب الفصلين 289 و293 منها وهو ما استقر عليه العمل القضائي في قرارات متواترة توجب توفر القرينة القوية أو القرائن المتعاضدة لدعم محاضر الشرطة القضائية كلازمة للأخذ بها في القضايا الجنائية، ولكن أيضا -وهو أمر خطير- لأن المحكمة وهي بصدد إصدار الحكم لم تحترم أدبيات وتنصيصات المشرع من ناحية عدم جواز التوسع في تفسير النصوص الجنائية (نقطة أولى) وكيفية تعليل الأحكام وقد وصل الأمر إلى حد خطير من تحريف الوقائع والشهادات (النقطة الثانية) وهو الأمر الذي أدى إلى خلل واضح في مسألة إعادة التكييف الجنائي (النقطة الثالثة) وهي أسباب وملاحظات كافية لأن تجعل من القرار الصادر في القضية استجابة متواضعة لتعليمات مخزنية شرسة.

1. التوسع في تفسير فصول القانون إضرار بالطلبة

من القواعد الفقهية في المادة الجنائية أن القاضي يطبق القانون الأصلح للمتهم، وأن الشك يفسر لصالح هذا الأخير، وبأنه يحظر التوسع في تفسير القانون الجنائي، لأن القاضي إنما يبحث أول ما يبحث في أسباب البراءة لأنها الأصل في الإنسان، والاستثناء أن يبحث في أسباب الإدانة وأن يبحث في طرق حرمان المتهم من الاستفادة من ضمانات القانون، وأخطر هذه الطرق التوسع في تفسير القانون إضرارا بالمتهم.

في هذا الملف وخلال جلسة 08 و09 يناير 1992 تقدم الدفاع بالدفوع الشكلية التي كانت غاية في الوضوح والإثبات، وهي المتعلقة بالخروقات التي شابت المسطرة أمام الشرطة القضائية والتي استقر القضاء المغربي على ترتيب جزاء البطلان عليها، إلا أن المحكمة هذه المرة كان لها موقف آخر من طريقة إثارة هذه الدفوع، وخلقت قاعدة جديدة سِمَتُها أنها لا تمت إلى القانون بصلة، فهي في معرض الرد على الدفوع المثارة والطلبات الأولية وخصوصا طلب إجراء الخبرة قالت “وبعد المداولة طبقا للقانون أصدرت هذه الغرفة… قرارا يقضي برفض جميع الدفوع الشكلية التي سبق سردها أعلاه، وذلك بسبب أن هذه الدفوعات سبق أن أثيرت جميعها أمام السيد قاضي التحقيق وصدرت فيها قرارات برفضها وتم استئنافها من طرف دفاع المتهمين أمام الغرفة الجنحية بهذه المحكمة التي قضت بدورها بتأييد قرارات السيد قاضي التحقيق…. ومواصلة مناقشة القضية”.

فمن جهة أولى، لماّ أرادت المحكمة أن تعلل قرارها بكون الدفوع الشكلية لم تقدم في الآجال المحددة لها طبقا للقانون. كان أولى أن تقول بعدم قبولها شكلا لا أن ترفضها موضوعا.

أما من جهة ثانية، فإن القرار وهو يقرر القاعدة التي أوردها في حيثياته، كان عليه أن يبين السند القانوني الذي اعتمده في تعليله احتراما لمبدإ عدم التوسع في تفسير القانون الجنائي إن لم نقل اختلاق قاعدة إضرار بالمتهم.

إن الدفوع الشكلية في الملف قدمت وفقا لمقتضيات الفصل 318 من قانون المسطرة الجنائية آنذاك، الذي أوجب إثارة الدفوع الشكلية أمام المحكمة بقوله “إن طلبات الإحالة بسبب عدم الاختصاص -ما لم تكن من أجل نوع الجريمة- وأنواع الدفع المترتبة إما عن بطلان الاستدعاء أو بطلان المسطرة المجراة سابقا وكذا المسائل المتعين فصلها أوليا يجب أن تقدم قبل كل دفاع في جوهر الدعوى”.

إن قبول الدفوع شكلا يعني أنها قدمت في إبانها، لكن المحكمة تناست أن مشتملات ولايتها وهي تقيم الدفوع الشكلية أن تبسط رقابتها على المسطرة المجراة سابقا.

إن المسطرة المجراة سابقا لا يمكن أن تغل يد محكمة الجنايات في بسط رقابتها عليها كلما أثير الدفع بخصوصها حسب ما أشار إليه الفصل 318 أعلاه.

وعلى فرض أن بعض الدفوع لا يمكن إثارتها بعد صدور قرار الإحالة من طرف قاضي التحقيق، وهو الدفع المتعلق بإحالة الأضناء على فحص طبي، فإن المحكمة تكون ملزمة بالبث فيه عندما يقدم كملتمس أولي حسب ما كان عليه الأمر في ملف القضية، هذا فضلا على أن باقي الدفوع كانت نظامية وأثيرت وفقا للقانون، لكن المحكمة ارتأت أن تعلل بمنطق لا يخضع لأي قانون.

ولعل الأمر كان واضحا منذ البداية أن المحكمة تبحث في أسباب الإدانة لا غير، ولا اعتبار لأي منطق أو قاعدة قانونية بعد ذلك.

2. انعدام التعليل وتحريف الوقائع

يوجب القانون على المحاكم وهي تصدر أحكامها وقراراتها بأن تجعلها معللة ليس فقط من الناحية الواقعية وإنما من الناحية القانونية، فإضافة إلى وجوب بيان العناصر المكونة للجريمة فإن المحكمة تكون ملزمة أيضا ببيان الوقائع المادية المكونة للجريمة.

وبالرجوع إلى التعليل بنص القرار الجنائي القاضي بالإدانة نجده أجمله في قوله ” حيث أن المتهمين: 1) الزقاقي بلقاسم، 2) عبد اللاوي يحيى، 3) حسيني المصطفى، 4) اللياوي محمد، 5) التاج أحمد، 6) بهادي محمد، 7) التاج نور الدين، 8) بلخضير المتوكل، 9) الزاوي محمد، 10) الغزالي محمد، 11) حيداوي علي، اعترفوا لدى الضابطة القضائية بارتكابهم للجرائم المنسوبة إليهم والمتمثلة في اختطاف الضحايا واحتجازهم وارتكاب العنف ضدهم وقتل الضحية…”

“……. وحيث إن عناصر المشاركة في القتل العمد مع سبق الإصرار تتجلى في كون المتهمين أعلاه وباقي المتهمين الموجودين في حالة فرار -والمتهم الطالب بلقاسم التنوري وهو الثاني عشر، لكونه حوكم لاحقا بنفس الكيفية والتعليل- حصل بينهم اتفاق مسبق على قتل الضحية..، وذلك بعد أن تَم صدور حكم عليه بذلك من طرف جماعتهم التي ينتمون إليها وقاموا بإخراجه مبكرا من منزلهم الذي كانوا يحتجزونه فيه وتوجهوا به إلى الخلاء وهناك اجتمعوا حوله وشرعوا في ضربه بشتى أنواع الأسلحة التقليدية والبيضاء إلى أن تيقنوا من إزهاق روحه وهربوا”.

هذا هو التعليل الذي تبناه قرار الإدانة ليحكم على كل واحد من الطلبة الإثنى عشر بـ20 سنة سجنا، فيما أدان طلبة آخرين من أجل الاحتجاز والعنف والاختطاف والمشاجرة…. وحكم عليهم بـ3 سنوات حبسا نافذا باستثناء تسع طلبة حكم عليهم بسنتين حبسا فقط بعد أن برأهم من تهمة الاختطاف والاحتجاز.

الخطير في هذا التعليل أنه حرّف وغيّر إن لم نقل زوّر تصريحات بعض الطلبة، إضافة إلى تحريفه لتصريح الشاهد الرئيسي في القضية، وحوّل الإنكار اعترافا، وتناقضت مكوناته. ففي الوقت الذي كان يسرد الوقائع المتضمنة إنكارا، فقد كان يدونها في معرض التعليل اعترافا.

وهكذا نجد نسخة القرار تشير في معرض سرد الوقائع إلى اعتراف كل من الطلبة 1) الزقاقي بلقاسم، 2) بهادي محمد، 3) التاج أحمد، 4) بلخضير المتوكل، 5) حيداوي علي، ثم بعد ذلك التنوري بلقاسم في مسطرة لاحقة بالمشاركة في القتل، مع تناقضات كبيرة بخصوص أسماء الأشخاص المشاركين، وكيفية التنفيذ وهل كانت هناك لجنتان الأولى للحكم والثانية للتنفيذ، أم هي لجنة واحدة…. تناقضات تجعل الشك يغمر وجدان كل قارىء، في حين سجل القرار إنكارهم في باقي مراحل القضية.

من جهة أخرى نسجل بأن القرار أشار في معرض سرده للوقائع بأن الطلبة العبدلاوي يحيى، حسيني مصطفى، محمد اللياوي، نور الدين التاج، محمد الزاوي وكذا الغزالي محمد لم يعترفوا بواقعة القتل وإنما صرحوا بأنه بلغ إلى علمهم أو أنهم كانوا على علم، مع إنكارهم في جميع مراحل الدعوى.

وبالتالي فعندما جاء قرار الإدانة وصرح بأن الطلبة اعترفوا جميعا بارتكابهم الاختطاف والاحتجاز والقتل يكون قد حرف تصريحات هؤلاء الطلبة تحريفا خطيرا.

إن تحويل الإنكار اعترافا وكذا شهادة النفي إثباتا هو في عرف القانون والفقه وكل القضاء بدون استثناء أخطر أنواع التحريف التي تشوب تعليل الأحكام وبالتالي تتعرض هذه الأحكام للبطلان، والقضاء المغربي لم يخرج عن هذه القاعدة بحيث جاء في قرار المجلس الأعلى رقم 1667 بتاريخ 16/12/1976 أنه “إذا كان لقضاة الموضوع سلطة تقديرية فيما يعرض عليهم من وثائق فليس لهم -تجنبا للتحريف- أن يغيروا معناها، وإن تحريف وثيقة حاسمة من وثائق المسطرة ينزل منزلة انعدام التعليل وبالتالي يعد من موجبات البطلان”.

وجاء في القرار عدد 3054 بتاريخ 17/05/1983 أنه “لماّ كانت وثائق الملف تفيد أن المتهم قد أنكر تهمة تبادل الضرب المنسوبة إليه… فإن تصريح المحكمة بأنه قد اعترف يعد تحريفا لوثيقة حاسمة يجعل القرار المطعون فيه مشوبا في التعليل يعرضه للنقض”.

ولماّ كان أمر تعليل الأحكام من النظام العام فإن المجلس الأعلى تصدى لحالات متعددة من تلقاء نفسه وقضى بإبطال القرارات التي حرفت الإنكار خصوصا ودونته اعترافا.

إن القرار القاضي بالإدانة لم يكتف فقط بتحريف الإنكار، بل تجاوزه إلى اختلاق أحداث من تلقاء نفسه خصوصا عندما يقرر بأن عملية القتل تمت “وذلك بعد أن تم صدور حكم عليه من طرف جماعتهم التي ينتمون إليها” وهو يعني بذلك جماعة العدل والإحسان -ويضيف أيضا- “وشرعوا في ضربه… إلى أن تيقنوا من إزهاق روحه”.

بل إن الأمر وصل إلى أكثر من هذا الحد في تحريف وقائع الملف وتصريحات أطرافه وخصوصا تصريح الشاهد الرئيسي الذي قرر القرار في معرض تعليله أنه شاهد مجموعة من الأشخاص يعتدون على الضحية بالضرب “بواسطة أسلحة متنوعة إلى أن لفظ أنفاسه” فقام بعد ذلك بإخبار الشرطة، وهذا تحريف لأقوال هذا الشاهد الذي صرح أمام الشرطة القضائية وأمام قاضي التحقيق وأمام المحكمة بأن الضحية لم يكن ميتا وأنه عندما أخبر الشرطة بالموضوع كان مازال حياّ يرزق؟؟؟؟!!!..

هكذا تمّت عملية تحريف تصريحات الطلبة والشاهد الرئيسي في القضية بشكل يبعث على التساؤل، لماذا أصر محرر القرار على هذا التحريف بالطريقة سالفة البيان؟ وأنه لماّ كان التعليل من النظام العام، والمجلس الأعلى يتصدى لحالات التحريف من تلقاء نفسه، فلماذا استثنى من هذه القاعدة هذا الملف؟

3. الخطأ في إعادة التكييف

لقد تبين للمحكمة مصدرة قرار الإدانة ضرورة إعادة التكييف القانوني للتهم المتابع بها الطلبة الإثني عشر، خاصة وأن قاضي التحقيق تابعهم من أجل القتل العمد مع سبق الإصرار….الخ.

وباستقراء وثائق الملف وعلى الخصوص فقرات القرار القاضي بالإدانة ستجد أن الطلبة الستة الذين سبق ذكر إنكارهم في الفقرة السابقة لم يثبت مشاركتهم في جريمة القتل حسب ما ذهب إليه القرار.

ذلك أن المشاركة تثبت بأحد الوسائل المحددة حصرا في القانون الجنائي والتي لا يوجد ضمنها مجرد العلم المسبق أو اللاحق بالجريمة.

فعلى فرض صحة محاضر الشرطة القضائية المنجزة في الملف، فإن قرار الإدانة أشار صراحة في معرض استعراضه لتصريحات الطلبة أن:

1. يحيى العبدلاوي: كان على علم بما يدور.

2. مصطفى حسيني: كان على علم أيضا فقط.

3. محمد الليـاوي: أيضا كان على علم دون أية تفاصيل.

4. نور الدين التاج: كان على علم بما يقع دون أن يشارك.

5. محمد الـزاوي: كان هو الآخر على علم.

6. محمد الغـزالي: علم من أشخاص آخرين أثناء مباشرة الشرطة للبحث.

وهذه التصريحات ستجعل هؤلاء الطلبة إما ضمن خانة المجموعة الثانية من الطلبة الذين توبعوا من أجل الاحتجاز والعنف والمشاجرة وأدينوا من أجل ذلك بثلاث سنوات حبسا. وإما ضمن خانة رابعة كان على المحكمة وهي تعيد التكييف أن تحدثها وهي مجموعة تتابع من أجل جنحة عدم التبليغ بوقوع جناية طبقا للفصل 299 من القانون الجنائي.

لكن الواضح أن هؤلاء الطلبة لم يستفيدوا من ضمانة إعادة تكييف التهمة رغم مباشرتها لسبب جلي، هو أن إعادة التكييف في الاتجاه الأول سيحتم معاقبتهم بعقوبة الثلاث سنوات كما باقي أعضاء المجموعة، وفي الاتجاه الثاني سيتم معاقبتهم بعقوبة أدناها شهر وأقصاها سنتان. والحال أن مجموعة الإثني عشر هي من بين أنشط العناصر المنتمية لجماعة والعدل والإحسان والفاعلة بقوة داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وبالتالي كان من الضروري أن تظل ضمن المجموعة الأولى وتحاكم ب 20 سنة سجنا.

بهذا الشكل انتهت الإحدى عشر يوما من التحقيق وكذا الإحدى عشر يوما من المحاكمة لتؤسس لواحدة من أسرع المحاكمات غير العادلة بالمغرب، ويبدأ بعدها مسلسل من الاستثناء دام 14 سنة ويخلد اليوم ذكراه الخامسة عشر.

سعيــد بــــوزردة

محام الطلبة الاثنى عشر

عضو الهيئة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان