نعود مرة أخرى لحديث الغايتين: الاستخلافية والإحسانية، وهما غايتا الإنسان في الأرض ليحصل له الكمال، كمال كرامته الآدمية وكمال معرفته بربه، بل هما غايتا الدين ومقصداه الكليان؛ هاتان الغايتان هما التجسيد المعنوي لثنائية العدل والإحسان)، ذلك أن الأستاذ ياسين وهو يعالج قضية الإنسان وما يعانيه، تحدث عن آفتين عظيمتين تحلان به فتغيران هويته)؛ الكفر والفقر، وبينهما من التلازم ما يستدعي هذه الثنائية القرآنية في علاجهما، يقول الأستاذ ياسين: الفقر والكفر توأمان متلازمان الرأسمالية العالمية تفقر بلاد المسلمين بنهب خيراتها، واستقطاب أموالها. تبيع السفهاء منا آلات اللهو، ووسائل المتعة، والمصانع التي يتطاول بها حكام الجبر من أجل الفخفخة.)وتفقر أنظمة الجبر أدمغتنا بإعلامها الملون المبهرج، الساري المتحكم في كل مجالات حياتنا. فإذا أدمغتنا المغزوة، المفقرة لا تستطيع الكشف عن أسباب نشوء طبقية يتجاورُ فيها البذخ الفاجر مع البؤس الأسود. الخمور المعتقة معروضة على السفهاء، والقمح الأمريكي يمن به شيطان الجاهلية علينا معشر المحاويج في بلاد المسلمين الخصبة التي لا تطعم سكانها.)لماذا لا تطعم سكانها؟)هناك فقر وهناك كفر. وابحث عن الكفر كلما رأيت فقرا. وانتظر الفقر كلما رأيت كفرا.)ويفقر الاستكبار الرأسمالي، بعد الأرض والجيوب والأدمغة، الرجولة والشهامة، وإرادة التحرر ونية الجهاد.)يميت هذه المعاني السامية حين يمسخ شخصيتنا، ويميع أخلاقنا، ويغرق أسواقنا البضائعية والفكرية بسلعه الاستهلاكية وقيمه البهائمية. تستكبر فينا طبقة حليفة للشيطان )[1].
ومن التوازن في نظرية المنهاج النبوي مما يتصل بما سبق ما جاءت مبشرة به من الجمع بين مفهومي العدل والإحسان )[2]، انطلاقا من قول الباري عز وجل: إن الله يامر بالعدل والإحسان (النحل:90)، اللذين أعطى لهما الأستاذ عبد السلام ياسين معنى يتسم بالشمولية التي تستوعب سائر أوجه التغيير على مستوى الفرد والجماعة على حد سواء، فمنطق الحياة يقوم على هذه الثنائية التي تعكس مبدأي القانون والرحمة من جهة في قيام الكون والكائنات، كما تعكس بالتبع ملاءمة كل مبدأ لجزء من هذا الكون والكائنات لا يناسبه غيرها، ففي النفوس ما لا يصلحه إلا العدل؛ أي القوانين والمساطر الزاجرة والعقوبات الرادعة، ومنها ما لا يكون له إلا الرحمة الإحسانية والمؤالفة، ويفسدها ويكسرها القانون والقوة إذا قوبلت بها.
وثنائية العدل والإحسان ثنائية هي مربط التوازن في وجود الإنسان كائنا مستخلفا عليه واجبات وله حقوق، وحق الإنسان الذي يشده إلى الحياة الكريمة على الأرض هو سعيه من أجل تحقيق العدل، وحقه الذي يرفع منزلته ويربطه بعالم السماء هو الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه”، وكل واحد من المطلبين يحتاج لجهاد واجتهاد، فالعدل جهاده ضد مكر المستبدين على مر التاريخ، والإحسان جهاده ضد مكر النفس على امتداد عمر الإنسان، ويقرر الأستاذ ياسين أن مطلب العدل وإحقاق الحقوق ومناهضة الظلم في واقع الناس واجب لا يسقط مهما تناسلت المبررات، والوقوف إلى جانب المقهورين والجائعين والمحرومين هو جوهر خطاب القرآن الذي جاء ليرفع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يقول الحق سبحانه: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم (الأعراف:157)، ولهذا فإن على المصلحين والدعاة أن يعوا جيدا أنه في أذن الجائع لا يسلك إلا صوت يبشر بالخبز، وفي وعي المقهور المحقور لا يتضح إلا برهان الحرية )[3]. وإذا كان هذا توضيحا يخص ما يناسب العدل والطريق السالكة لتحقيقه عبر جهاد الممانعة والمقاومة للظلم، فإن تطلع الإنسان لا يتوقف عند حدود المطالب المادية، بل يتجاوزه إلى معنى الإنسان وكمال الإنسان المتجسد في صلته بالله تعالى ورقيه في درجات القرب من طريق الصحبة الذاكرة المذكرة والجماعة الحاضنة المحصنة، تلك هي طريق الإحسان أو طريق الآخرة، حيث علم الإحسان هو علم عاقبة المرء وعلم الآخرة )[4]، ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين (يوسف:109).
[1] _ ياسين، عبد السلام، المنهاج النبوي،ص 425
[2] – تجد بعض العقول الغربية صعوبة في استيعاب المعادلة الصعبة التي حققها الأستاذ عبد السلام ياسين بجمعه بين البعدين الروحي الصوفي التربوي والحركي السياسي المقاوم، من ذلك ما ذهبت إليه ما رينا أوتاواي وميريديث رايلي في دراستهما التي نشرها معهد كارينغي الأمريكي،يراجع أوراق كارنيغي :المغرب من الإصلاح الهرمي إلى الانتقال الديمقراطي؟(الترجمة العربية)،رقم71، سبتمبر2006،ص22.
[3] – ياسين، عبد السلام. الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية،م.س، ص12.
[4] – – ياسين، عبد السلام. الإحسان،م.س،ج1 ص115.