كلمة الأستاذ المرشد للإخوة المفْرَج عنهم: منارات وثوابت

Cover Image for كلمة الأستاذ المرشد للإخوة المفْرَج عنهم: منارات وثوابت
نشر بتاريخ

المناسبة

بعد أن أنهى الإخوة معتقلو العدل والإحسان مدة محكوميتهم -20 سنة قضاها الأحبة في سجون المخزن- في ملف مفبرك يعود لـفاتح نونبر عام 1991 حيث تم اعتقال إثني عشر من الفصيل الطلابي لجماعة العدل والإحسان بتهمة لم تثبت، ثم أدينوا بعشرين سنة حبسا نافذا في ظروف أقل ما يقال عنها إنها كانت تنعدم فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة. وحتى يعلم من لا يعلم، فإن ذلك الحكم الجائر قد جاء بعد فشل المفاوضات بل المساومات مع الأستاذ المرشد حفظه الله الذي كان تحت الحصار وأعضاء مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان الذين كانوا آنذاك رهن الاعتقال بسجن سلا. وبذلك يتأكد أن ذلك الحكم الثقيل لا علاقة له بالتهم) 1 .

بهذه المناسبة، مناسبة الانعتاق ومعانقة الحرية، خص الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان فتية الجماعة بكلمة تهنئة وتوجيه جاءت -كالعادة- زاخرة بالعبر والدروس نحاول استكشافها تعميما للفائدة، وتيسيرا للمزيد من التحليل والمدارسة نضع متن الكلمة بين أيديكم. والله من وراء القصد.

متن الكلمة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المخلوقين، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

أيها الأحبة، أسجل هذه الكلمة عشية السبت 20 شوال 1430 هـ. نسأل الله عز وجل أن تكون كلمة تقوى تحسب لنا عند الله عز وجل.

أيها الأحبة الذين في السجون: في سجون المخزن، والذين في سجون الدنيا. ونحن في سجن الدنيا، والمؤمن في سجن الدنيا دائما؛ نسأل الله عز وجل أن يكون لقاؤنا مع الله لقاء الأحباب، ولذلك نعمل، وذلك نرجو، ولذلك نسعى.

أيها الأحبة في سجون الظلم والعدوان، أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

نسأل الله عز وجل أن تكون هذه الكلمة حافزة لكم على التقوى وقول المعروف والمغفرة، وأن لا يكون في قلوبكم غل للذين ظلموكم. وكذلك يكون الناس المؤمنون الصالحون المصلحون، لا يلتفتون إلى تفاصيل الدنيا، وما يقع عليهم من ظلم فيعفون ويغفرون ولتعفوا ولتصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟

نسأل الله عز وجل أن يكون خروجكم من السجن إلى الحياة العامة خروج صدق، وأن تقولوا قولة صدق بين من يكذبون، فإن الكذب تفشى في الناس، والحكام يكذبون على المحكومين، وينتظر الناس من يقول كلمة الحق، لا يخشى في الله لومة لائم. كذلكم أنتم الذين اختار الله عز وجل لكم المكث في السجن، سجن يوسف عليه السلام سنين حفظتم فيها القرآن الكريم وتخرج منكم من تخرج بشهادات عليا بتفوق شهد له الأعداء والخصوم والأصدقاء.

نسأل الله عز وجل أن يلهمكم القول الحق، لتقولوا كلمة الحق عند خروجكم، وتذكروا أنكم تحملون رسالة العدل والإحسان، ورسالة العدل والإحسان قول معروف ومغفرة. قول معروف ومغفرة وإصلاح بين الناس. لا نريد العنف، ولا نسعى للعنف، ولكن نحن نقول قولة صريحة ونكررها في كل مناسبة: نحن ضد الظلم المتمثل في الحكم الجبري العاض الذي ألحى به صلى الله عليه وسلم باللائمة، وحذرنا من حكم الصبيان وحكم غلمان قريش، وأنتم ترون وسترون بعد خروجكم من السجن ما يفعل غلمان قريش، غلمة قريش، أغيلمة قريش بالأمة، يسخرون مقدُراتها ومقدَّراتها ومقدساتها لكي ينفخوا في عظمة زائفة، عظمة ملوك جبابرة، يحسبون أن على شيء، وهم ليسوا على شيء.

هذه الكلمة لكم: قولوا كلمة الحق، واخرجوا بنية أن تقولوا كلمة الحق، لا سيما وأن الله عز وجل أتاح لكم فرصة حفظ كتاب الله عز وجل. فكلمة الحق ما قاله الله عز وجل، وما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم. وأنا مسرور بلقائكم إن شاء الله عن قريب.

نسأل الله عز وجل أن يفرج عنكم، وأن يفرج كربات المسلمين أجمعين، وأن تكون صولة الظالمين صولة ساعة، صولة ساعة وتمضي وينساها الناس، وتبقى كلمة الحق الخالدة. تقول كلمة الحق فتبقى بعدك مخلدة إن شاء الله. وكذلك تكونون. وكذلك تفعلون. وكذلك تقولون. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. 2

في توقيت الكلمة

تمت الإشارة في الكلمة إلى تاريخ إعدادها، حيث سجلت قبل أكثر من شهر ونصف من انعتاق الأحبة. وفي هذا إشارة إلى تهمم الأستاذ المرشد -حفظه الله تعالى- وتشوقه للقاء فتية العدل والإحسان؛ تشوق الأب الحنون العطوف لمعانقة فلذات الأكباد، وهو الذي شد الرحال لزيارتهم في معتقل القنيطرة، حيث كانوا وقتها مباشرة بعد رفع الإقامة الجبرية عليه سنة 2000م، ولما حال التسلط المخزني دون اللقاء اكتفى -حفظه الله تعالى- بمكالمتهم هاتفيا من أمام المعتقل.

تشوق وتشوف أبويان ترجمته الرسائل المتعددة للأحبة في أكثر من مناسبة مواساةً لهم ورفعا للهمم. تشوق وحبور ختم به مصرحا: وأنا مسرور بلقائكم إن شاء الله عن قريب). وكذلك كان، فقد وجد الفتية البررة الصدر الرحيم والوجدان الفياض في انتظارهم، وتشرفوا -وهم أهل لكل تقدير واعتبار- بمعانقة الحبيب وسعدوا بالتملي في الطلعة البهية، مثلما سعد وابتهج.

“وأما بنعمة ربك فحدث”

على الرغم من حساسية الموقف وعظمة الخطب، فالاعتقال التعسفي الغاشم لعقدين من الزمن ليس هينا، ومهما كانت كلمات المواساة بليغة والعبارات مسعفة تبقى العشرون عاما جاثمة على القلوب تنغص فرحة الانعتاق، لذلك سارع -حفظه الله تعالى- للتذكير أن المؤمن في سجن الدنيا الكبير يدافع الظلم والباطل وهوى النفس في إشارة لطيفة لحديث: “الدنيا سجن المؤمن”. إشارة تربوية من شأنها أن تهون مرارة الاعتقال المخزني الذي -بداية ونهاية- لا يخرج عن الابتلاء الإلهي لعباده، ابتلاء لم يستثن منه خيرة خلقه من الأنبياء والمرسلين: كذلكم أنتم الذين اختار الله عز وجل لكم المكث في السجن، سجن يوسف عليه السلام..) بهذا المعني -وهذا دأب الربانيين- يصبح السجن اصطفاءً وتوفيقا إلهيين رفع به سبحانه الدرجات بما صبر واحتسب الأحبة وثبتوا على الحق، فجاء العطاء فيضا ربانيا ليضحى الاعتقال على مرارته -وليس من اعتقل كمن سمع- بردا وسلاما، فنـور الحق سبحانه القلوب والبصائر واستودعها كتابه وما شاء جل وعلا من الشهادات والاستحقاقات العلميةً المشرفةً ساقها رطبا جنيا، حفظتم فيها القرآن الكريم وتخرج منكم من تخرج بشهادات عليا بتفوق شهد له الأعداء والخصوم والأصدقاء). فجاء النوال أعظم من الابتلاء مهما عظم الابتلاء في ميزان النفس.

وفي إشارة تربوية عجيبة لتطلب النفس معالي الأمور وتترفع عما يخدش عملا جهاديا عظيما نبه -حفظه الله تعالى- إلى أن صولة الظلم ساعة، وأن ليل الاستبداد والاضطهاد إلى زوال في صيغة دعاء للباري عز وجل فهو الكفيل برفع الظلم: نسأل الله عز وجل…أن تكون صولة الظالمين صولة ساعة. صولة ساعة وتمضي وينساها الناس، وتبقى كلمة الحق الخالدة..).

إنها لمسة القيادة الربانية تواسي وتوجه وتحفز لطلب المعالي وكذلك يكون الناس المؤمنون الصالحون المصلحون، لا يلتفتون إلى تفاصيل الدنيا، وما يقع عليهم من ظلم فيعفون ويغفرون، ولتعفوا ولتصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟).

قيادة ربانية ووراثة نبوية لا تربي على الحقد والانتقام والانتصار للنفس، لذلك نبه الأحبة المفرج عنهم أن لا يكون في قلوبكم غل للذين ظلموكم).

ثم إن المرشد حفظه الله يتحدث عن السجون ومحنة الاعتقال حديث من خبر غياهب السجون المغربية، وذاق من كأس ظلم المخزن في “أوج” سنوات الرصاص خريف 1974 جزاء نصيحته التاريخية “الإسلام أو الطوفان” التي أسداها لملك البلاد وقتذاك؛ وما عهدناه يتحدث بشماتة عمن ظلمه، بل لا يتردد في الترحم عليهم، وهذا دأب الصالحين الربانيين تأسيا بالموقف النبوي الرحيم بأمته: “اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون”

حتى لا تزيغ بنا الأقدام

على الرغم من الطابع التربوي للكلمة فقد ذكرت بالموقف السياسي للجماعة وأسلوب عملها، فتم التذكير برفض الجماعة للعنف والانجرار إلى ردود الأفعال، لا نريد العنف، ولا نسعى للعنف). فلا محل للعنف قولا أو فعلا أو سلوكا أو فكرا في قاموس الجماعة بما هي دعوة. حظ الدعوة من الوصف النبوي يقاس بحظها من الرفق بالأمة، أمة جهلت وفقرت وأشربت العداء للدين أحوج للرفق حتى تعرف بالمثال الحي الذي لا يزيده جهل الجاهل إلا حلما، ويحرص على أن يصل من قطعه، ويعطي -ولو من سعة صدره وبشاشة وجهه- من حرمه أو حاول إقصاءه.

دعوة ذكر حفظه الله الإخوة المفرج عنهم خاصة وأعضاء الجماعة عامة بعنوانها دون أن يمل من تكراره وتذكروا أنكم تحملون رسالة العدل والإحسان، ورسالة العدل والإحسان قول معروف ومغفرة. قول معروف ومغفرة وإصلاح بين الناس).

“رفق لا عنف” أسلوب عمل الجماعة الذي لا يتعارض وقول الحق وتوصيف الأمور بالوصفين القرآني والنبوي: فكلمة الحق ما قاله الله عز وجل، وما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم)، ونحن نقول قولة صريحة ونكررها في كل مناسبة: نحن ضد الظلم المتمثل في الحكم الجبري العاض الذي ألحى به صلى الله عليه وسلم باللائمة، وحذرنا من حكم الصبيان وحكم غلمان قريش..). قول الحق والثبات على الحق عربون الصادقين في كل زمان، وهذه طِلبة المستضعفين: ينتظر الناس من يقول كلمة الحق، لا يخشى في الله لومة لائم..) وهذا نهج الجماعة منذ نشأتها وما تزال وستبقى إن شاء الله تعالى على العهد لا تبدل ولا تغير ولو بدل وغير من بدل وغير، لهذا تكررت النصيحة بقول الحق: قولوا كلمة الحق، واخرجوا بنية أن تقولوا كلمة الحق، لا سيما وأن الله عز وجل أتاح لكم فرصة حفظ كتاب الله عز وجل..)

مسك الختام

كلمة مركزة عفوية جاءت حبلى بالدروس والدرر التربوية، جمعت على قصرها بين المواساة وتطبيب جراح قلوب تفطرت كمدا لفراق الأهل والأحباب لعقدين من الزمان، وبين تحفيز لطلب المعالي والانصراف عن تفاصيل الدنيا وملء القلوب بالضغينة والغل للظالمين، وبين التذكير بأس عمل الجماعة الرافض للعنف دون أن يعني ذلك السكوت عن الظلم، فقول الحق كل الحق دين تعبدنا الله عز وجل به: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون

خصال نبوية عظيمة لا يشم لها رائحة من لم يتتلمذ على مشكاة النبوة، فتنطبع سلوكه بالهدي النبوي. خصال تشبعت بها الروح فسرت كلاما سلسلا بلسما يلامس القلوب فتتعافى من كل غل أو ضغينة للظالمين مهما كان ظلمهم بليغا.

معاني جليلة لا تجتمع في هكذا كلمة إلا لذي بصيرة تنورت بنور الله، واستقت من معين النبوة؛ أحبه المولى الكريم لما استوفى شروط المحبوبية، فصار “سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها” 3 . والحمد لله رب العالمين.


[1] افتتاحية الموقع الرئيسي “ولنا كلمة” ليوم السبت 2009.11.07.\
[2] الكلمة بالصوت والصورة في موقع الأستاذ عبد السلام ياسين: www.Yassine.net.\
[3] من حديث “من عادى لي وليا..” للإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه.\