(1)
ظهر مفهوم الصعلكة في التاريخ العربي في العصر الجاهلي، وقد وسم باسم الصعاليك ثلة من الناس تمردوا على النظام الثقافي والسياسي لقبائلهم ومارسوا العربدة والثورة على القيم المشتركة ونشروها في أشعارهم. ومن هؤلاء من كان سيئ الخلق بحيث لجأ إلى اتهام النساء والتشبب بهن ورميهن بسيئ الأخلاق طريقاً لمحاربة كل من اعترض على صعلكته. وقد بين الدكتور شوقي ضيف في كتابه العصر الجاهلي، أن الدلالة اللغوية للفظ الصعلوك، التي كانت تحصره في ذلك الفقير الذي لا يملك ما يساعده على العيش وتحمل أعباء الحياة، تم تجاوزها واتخذت معان أخرى كقطاع الطرق الذين يقومون بعمليات السلب والنهب. فالصعلوك بهذا المعنى ليس هو المفتقد إلى المال، بل العالة على الخلق والشرف والنخوة وكل الفضائل.
ولم ينته مفهوم الصعلكة بانقضاء العصر الجاهلي، بل صارت له تجليات معاصرة اقتبست روحه، وتلبست بصور معاصرة مواكبة تغير الأزمان والمجتمعات. وقد ارتبط في دلالته المعاصرة بمجالات متعددة منها ميدان السياسة، فظهر مفهوم الصعلكة السياسية التي تحمل أساسا معنى استباحة كل الوسائل، كالدجل والتلبيس والتجرؤ على القيم والتقاليد بل حتى القانون، لتحقيق الغايات المرجوة. وقد صارت الصعلكة السياسية ظاهرة بارزة في الفترة المعاصرة وفي العديد من المجتمعات.
(2)
في تعامل الأنظمة السياسية مع معارضيها سجل التاريخ منذ القدم أنماطا من التصرفات وأشكالا شتى من الأساليب وظفت في المواجهة. وسواء كان الغرض استئصال المعارضة كليا أو تقزيم حجمها وتأثيرها، فإن الوسائل تنوعت حسب تجارب الأمم وثقافتها وإرثها السياسي. وقد توزعت أدوات المواجهة بين ما هو خشن وما هو ناعم، واستخدم كل منها حسب سياق المواجهة والغاية منه.
ومن الأساليب التي شاعت، خاصة في تجارب الأنظمة المستبدة، أسلوب الصعلكة أي الانحطاط الأخلاقي وعدم مراعاة حرمة الناس وحياتهم الخاصة، بل البحث في دهاليزها عن كل ما من شأنه أن يوظف ضد أصحاب الأصوات الحرة أو المواقف المعارضة للسلطة الحاكمة. وفي زماننا، وبسبب تطور وسائل التلصص على الشعوب والتجسس على حياتهم الحميمية وكذا تطور تقنيات تزييف الصور والأصوات، صارت الصعلكة خيارا مفضلا لدى الأنظمة المستبدة في التعاطي مع معارضيها؛ إذ صار من السهل عليها تلفيق التهم لهم بغرض تجريدهم من رصيدهم الأخلاقي وفصلهم عن عمقهم الاجتماعي. فلماذا اللجوء إلى هذا الحضيض في التعامل مع مخالفي الرأي أو الموقف السياسي؟
عادة ما تتظافر عوامل عديدة في إنشاء ظاهرة ما وتطورها، سواء كانت نفسية أو اجتماعية. لكني أود، في هذه العجالة، التركيز على ثلاثة منها فقط تحكمت في ظاهرة الصعلكة السلطوية اقتصادا لوقت القارئ وجهده. وأول هذه الأسباب وأكثرها حضورا هو ضعف السلطة الحاكمة ووهنها وغلبة الانفعال على من يدبر شؤونها وغياب الحكمة لديه. يضاف إليه تولي بعض السفهاء ومن لا أخلاق لهم اتخاذ القرار في الدولة؛ وهؤلاء عادة لا ماضي لهم ولا مستقبل، فهم بمثابة مرتزقة لا تهمهم إلا منافعهم الشخصية الآنية، وهم في سبيل تحقيقها والحفاظ عليها مستعدون لارتكاب أشنع الممارسات وأبشع الجرائم. وسجل التاريخ حافل بأخبار الأمم التي ما أن يصل الهرم إلى مفاصل الحكم فيها ويعشش الضعف في أوصالها حتى يتسلط عليها السفهاء وشذاذ الآفاق، ويطوفون حول مائدة حكامها عارضين خدماتهم التي لا يجرؤ على القيام بها سواهم. فتراهم يزينون للحاكم ظلمه وبطشه ويضاهونه في الحقد والفجور أثناء تنفيذ قراراته ضد من يعارضه. فالتلميذ هنا يكون أكثر صعلكة من استاذه.
ثاني الأسباب المفسرة لظاهرة صعلكة السلطة فشل هذه الأخيرة في تحقيق اختراقات استراتيجية في مواجهة المعارضة، والحد من تنامي شعبيتها وترسيخ مصداقيتها لدى الناس. تكرار هذا الفشل يرفع منسوب الحنق لدى الحاكمين وتضطرهم انفعاليتهم إلى اعتماد أخس الأساليب في مواجهة خصومهم السياسيين. وعادة ما يكون الدافع وراء ذلك تحقيق هدفين رئيسيين؛ أولهما تحطيم الصورة المثالية التي تشكلت لدى الرأي العام تجاه المعارضة وتشويهها أو على الأقل التشويش عليها. وثانيهما جر هذه الأخيرة إلى معركة استنزاف تنشغل فيها بالدفاع عن نفسها ضد حملات التشويه الرسمية مما يعيقها
عن الاستمرار بنفس الإيقاع في استراتيجية مناهضة السلطة الحاكمة وفضح فسادها واستبدادها.
أما السبب الثالث وراء الصعلكة السلطوية فيتحدد في رغبة السلطة الحاكمة، حين يصل بها اليأس مدى لا يطاق في مواجهة المعارضة، في إرسال رسالة واضحة لهذه الأخيرة مفادها أنه في حالة إصرارها على المضي في مسارها وعدم التنازل للحاكم والاصطفاف معه، فلا وجود لخطوط حمراء تكبحها عن التصدي لها، وأنها تستبيح كل الأساليب مهما بلغت دناءتها وبشاعتها للقضاء على وجودها وإيقاف سيرها. والغرض الأساس من هذه الرسالة إثارة الرعب في صفوف المعارضة، وتشتيت وحدتها الداخلية، وإثارة الانقسامات بينها مما قد يضعفها ويحد من تأثيرها ويطوق نفوذها.
وعموما تعددت الأسباب وراء ظاهرة صعلكة السلطة لكن الغاية منها في النهاية واحدة، هي إضعاف المعارضة تمهيدا إما لصهرها في النسق السياسي الحاكم أو إضعافها تمهيدا لتلاشي تأثيرها وإشعاعها. وحين نفتح كتاب التاريخ، نقرأ فيه أن ما يشجع الحكام على التمادي في سلوكهم المشين ذاك هو أن استراتيجية الصعلكة حققت بالفعل نتائج مهمة في مرات عديدة. فقد تمكنت بعض الأنظمة السياسية من القضاء على خصومها بشكل كامل أو نسبي باتباع هذا النهج من المواجهة. لكن التجارب السياسية تشرح سبب ذلك؛ فحين يكون أساس المعارضة وغايتها بلوغ السلطة قصد الانتفاع بمكاسبها، والاستفادة من خيراتها، فقد تنفع معها هذه الاستراتيجية، لأن هذا النوع من المعارضة يكون عادة ضعيف النفس وقابلا للابتزاز والاختراق. لكن حين تبنى المعارضة على مبادئ راسخة أساسها الرغبة في إحقاق العدل وإشاعة الكرامة والقضاء على الفساد والاستبداد وتجاوز آثارهما المدمرة، وحين تبنى على التفاني في خدمة المبادئ والإخلاص لها، وحين يكون الوعي في صفوفها قويا وسليما من الزيف، وحين تكون التعبئة واليقظة في مستوياتها المناسبة، فالتاريخ يخبرنا أنه في هذه الحالة ينقلب السحر على الساحر، وترتد الصعلكة على الصعاليك، وتكون مدخلا لبوارهم وهزيمتهم.