هذه كلمات كتبتُها مخاطبا نفسي التي بين جنبَيَّ، موبّخا إياها على التفريط والغفلة، ومقرّعا مسامعَها بزواجر التوبيخ على قعودها وانتكاسها، فإن وظّفتُ كافَ المُخَاطَبَةِ فتعزيرُها هَدَفِي، وإن أصاب القارئَ من نصّي رشاشُ عَتْبٍ، فما أنا بِأَحْرَصَ على بُلُوغِه، إلّا إليَّ، ولا أدّعي وعظا لأحد، وإنما هو رجاءٌ مدسوس في الصِّيغَة، التماسًا لدعوةِ قلبٍ مُشفِقٍ مُعَلَّقٍ بمولاه، ينتظرُها رويجِلٌ مغلوب على أمره، ومتلاعبٌ لمّا ينزجر عمّا هو فيه من هَوَس، ليشمّر كي يلحق بالسابقين، ويقوم مع الرجال القائمين.
لَهَفِي عليكَ أيها الولد المستعجل !
كأنّها تَعَمَّتْ عَلَيْكَ فما عرفتَ ما تطلُبُه، ولا حسبتَ جيدًا كُلْفَةَ المعنى وزادَ الطريق، ولا أراك أدركت جلالَ ما حوله تحوم، وسُمُوَّ ما لِخَطْبِ وُدِّهِ تَرُوم.
أتذكر أنكَ جئتَ تخطب سَنامَ الرُّتْبَةِ الجُلَّى وتطلب ذُرَّةَ المقام الأعلى؟! فهلّا سعيتَ كي تَبْلُغَ بَاءَةَ النَّوال، واجتهدتَ كي تَحُوزَ مَهْرَ الوِصال! أم تُراكَ سادرٌ لا تُمسِكُهُ كوابحٌ ولا أسوار، وعابرٌ لا يقرُّ له قرار، وطائش لا ينفعه اعتبار، وقيعانٌ لا تُمْسِكُ قَطْرًا ولا تَنْبُتُ فيها أسرار.
هل كنت تَحْسِبُ الدخولَ نزقاً مارقًا يأتيه أيُّ أحد، ويستطيعُ مُكَابَدةَ سَبِيلِهِ كُلُّ وَلَد؟! وهل كنت تظُنُّ الأمرَ نزهةً تفي بالغرض، أو فسحةً صغيرةً تضمن لِشُحِّ النَّفْسِ هناءَ الأَبَد؟!
فهل تدرك أيها الولد المتحمّس حجم العقبة الكَؤُود، حتّى تنصِّب شِرَّةَ حالِكَ حَكَمًا تنسبُهُ لأهل الشُّهُود، هلَّا عرفتَ قدْرَكَ حين انجرفتَ إلى أودية الجحود، وسقطت في قيعان اليأس وأوهامِ القعود، ولم تجد إلّا انكسارا يأويك من تجبُّر الادّعاءِ وغلواء الصّدود.
فهل تفي أيها الرويجل بما وعدت به نفسك من المضي في الطريق رغم كل المخاطر، وما أشهدتَ عليه إخوانَك من أهل البصائر؟! فأين العزمات التي تنهدّ أمامها الجبال إن كنت الصّابر المُصَابِر؟!
والله لقد احترتُ في أمرك، جئتَ أوَّل عهدِكَ منكسرا منحازا، مرادُك توبةً تخرجك من ظلماتك، ثم ارتقت همّتك للمقام العالي، تطلب الزُّلْفى والرُّتْبَةَ الفُضلَى، لكن سرعان ما تعثّرتِ الخُطى، وتشوّشُ سهم الصدق وطاش، وتسلَّلَتْ خُفْيَةً لوثة الانتفاش، فكَبُرْتَ في عين نفسك، حتّى ما يطيب لك مقعدُك في ساقَةٍ ولا حِراسة، تتشوّفُ للتّصدُّرِ والبُرُوز، وتتربَّصُ بالرِّئاسَة خوف إفلاتها، وهي رأس ما قد يهدّد بنيان صدقكَ وسابِقِ بلائك، فهلّا تصفّحْتَ صدرَك، وراقبتَ اتّجاهَك، وحدّدت بُغيَتَك !
أتحرص على ما يفرُّ منه المُقبِلونَ الملتاعون؟! وتتحايلُ على ما يخيف حملُه، ويتعسّر حسابُه وأنت تدّعي صفاء القصد وسمو الطِّلبة؟!
وما لي أراك كلّما علا غُبار المعارك تحدّثك نفسُك بالانحياز إلى هامش الميدان، فتنكمش في الأقاصي متخفّيا متملّصا بلا عُنوان، كأنّي بك تتصيَّدُ وضعا مُريحا بلا هُموم، لا جهد فيه ولا أذًى ولا كُلُوم، أو تروم دَعَةً عنوان الجُبْنِ المَذموم، فهل يصح صدقٌ بتعلّلٍ يبرّرها أو بتفلسف يجيزها؟! وهلّا أمسكتَ بتلابيبها وفضحتَ زيفَ ادّعائها، وألزمتها سبيل الراشدين، وأَطَرْتَهَا على منهاج الصادقين !
أي بني، عهدي بك بين يديه تتلقّف ما يقول، متعطّرا بحضرته، مرتويا من سلسبيل نظرته، رافعًا كفّك مبتهجا عازما على حفظ الكتاب، ثم رأيتُك ماطلتَ وسوَّفْتَ، ثمّ ارتكست ويئست، فما بالك تصدّ عن كلامه وقد تدنّى إليك تلطّفا، وتودّدَ إليك تعطّفا، حتى لَأَرَاهُ يَجُرُّكَ إليه جَرًّا، وهو يرسم لك الخطى، ويترفّق في المسافة، ويشدّ حبل الوداد، مع تكلّسك وتراخي سعيك وتقلّص شوقك، فهلّا شمّرت ودنوت، وألححت وعاندت.
وأذكُرُ أَنَكَ قَدْ أقبلتَ زَمنًا ذاكرا مشتاقا، فربّما ذقتَ بعضًا مما أفاء الله عليك من أطايب تلك الجِنان، واحتميتَ من لأواء الوقت بظلال الأغصان والأفنان، ثم ها أنت تملّصتَ حتى خمدت تلك الجذوة، وحَلَّ البرد القارس وأنت في العراء بلا جناح، فهلّا رُمْتَ دِفْئَ السِّرْب، وأخلصتَ في قَصْدَ الدَّرْبِ، وجدّدتَ طرق الباب مع الأحباب، فليس من عوائده ردُّ العائدين، ولا مَنْعُ العائلين، ولا طردُ النّادمين.
لَهَفِي على ما أصابك أُخَيَّ من تذبذب أَتْلَفَ وَجْدَك، وكَسَرَ -لَوْ تَدْرِي- لَوْحَك، وأحالَك هَمَلًا سائبًا عن نَهْجِ الراشدين، وَوَهْمًا متبَخِّرًا مع السّنين.
فها هي ذي ذكراه تجدّدتْ عليك، فأينك منه؟ وها هي ذي بركاتُ حلولها تطرق سمعك وبصرك، يفتح لك فيضُها الأقفال، ويضيء سناها لك المجال، ويقدح عبيرُها شرارة الطّلب وجذوة الإقبال.
فَيَا لَتَيْهِك إن لم تئن في خلواتك كمدا على ما فاتك من الأوقات، وتتقطع كبدُك حرقة على تخلُّفِكَ وسَبْقِ غَيْرِك: جاؤوا بعدَك، واجتازوا خَطوَك، ولَانُوا طَيِّعينَ حِينَ استَكْبَرْتَ وغَشِيتَ ثَوْبَك، وبذَلُوا بلا حساب حينَ مَنَنْتَ وأطعتَ شُحَّك، واستجمعوا الشُّعَبَ دِقَّها وجِلَّهَا قَبلَك؟!
فهل تُرَاكَ تَجَدِّدُ السَّيْرَ متخلّيا عن أوسمة كسبِك واعتدادِك، وتُسَلِّمُ سفينتَك الشاردة إلى رُبَّانِها، حتّى يقودَها إلى صحيحِ عنوانِها، وينقذها من اعتلال حالها وخطورة مآلها؟!