في اليوم المائة على انطلاق الحدث الذي غيّر وجه المنطقة وأعاد ترتيب الأولويات الدولية بما حمله من شموخ وعنفوان فاق كل توقّع، وفي اليوم المائة من سير حرب إبادة وحشية صهيونية لم تترك كبيرة إلا ارتكبتها بما رسمته من هولوكوست بربريّ دام، لا يمكن لغزة إلا أن تتصدّر العناوين وتعلو سيرتها فوق كل حديث، بما حقّقته من إنجازات مبهرة؛ في المعاني والأفكار، في الأحداث والميدان، في الخارطة والفاعلين، في القضية والمصير.
استطاعت غزة، على غير توقّع من الجميع، أن تعيد التموقع لنفسها ولكل فلسطين، وأن تحقق جملة من المكاسب العظيمة، نُسقط منها ما تحقق إقليميا ودوليا، ونكتفي هنا بذكر ما كسبته على المستوى المحلي:
– استطاعت غزة لأول مرة في تاريخ صراع العرب و”إسرائيل” أن تنقل طبيعة المعركة من الدفاع إلى الهجوم، وأن تتغلغل مقاومتها البطلة إلى داخل الأراضي المحتلة وأن ترابط هناك لساعات تقاتل وتوجع وتربك وتصيب العدو في مقتل وفي “عقر داره”. لم يحصل هذا فقط يوم العبور العظيم في 7 أكتوبر، وإنما أيضا على مدار أيام بعد ذلك، حتى باتت عسقلان وقاعدة زيكيم العسكرية… مما يسهل على مقاتلي القسام زيارتها والعبور إليها. إنه تحوّل استراتيجي هام، رسم صورة واضحة عن النصر الممكن والتحرير الموعود، الذي ينبني على التقدّم وكسب الأرض وانهيار حصون العدو وفرار جنوده ومستوطنيه ونقل الصراع بتفاصيله العسكرية المختلفة إلى “الداخل الإسرائيلي”.
– كشفت غزة أن القوة الجبّارة إن لم تستند إلى حق أخلاقي عادل سرعان ما يذبّ الضعف والخَوَر إلى أوصالها مادامت روحها شوهاء؛ فقد أصاب العمى استخبارات العدو التي لا تنام ولا يفوتها شاردة ولا واردة حتى تغلغل المقاتلون إلى داخل الكيان فقتلوا وأصابوا وغنموا وأسروا، وهو العمى المستمر رغم الاستعانة بأحدث المسَيّرات وبأعثى أجهزة المخابرات وبأدق أدوات التجسس. وقد ارتعشت أيدي عساكره القتلة في اليوم الأول وفي كل يوم، وها نحن نرى هزيمتهم اليومية على أيدي مقاتلي الفصائل، لينفسوا عن خساراتهم ويبثوا أحقادهم في قتل المدنيين وإبادة الأطفال والنساء وتدمير الحجر والشجر والحيوان… قوة الجيش الذي لا يهزم ما لبثت أن تكشّفت على الضعف والهزيمة والارتباك والخيبة.
– أظهرت غزة أن الكيانات الزائفة والتجمعات البشرية المصطنعة ما تلبث أن يبدأ جمعها في الترهل ومكوناتها في التراشق حين تنزل المدلهمات الحوالك؛ فهذا غلاف غزة تم هجرانه بالكامل، فالمستوطنون لم ينبثوا في هذه الأرض وليسوا منها ومن ثم لا صمود ولا ثبات ولا دفاع ولا تضحية. وهذه المدن التي تصلها صواريخ المقاومة تعيش حالة من الاستنفار الدائم واللاستقرار ويقضي ناسها الكثير من الوقت في الملاجئ خوفا وهلعا. وهذه الهجرة العكسية لعشرات آلاف الصهاينة إلى ديارهم الأصلية، وهذا الاقتصاد المستنزف، والنخبة الإسرائيلية المتصارعة، والمواطن الصهيوني المأزوم نفسانيا… إنها نذر الانهيار وبداية النهاية.
– أعادت غزة للقضية مكانتها اللائقة ووصفها المناسب باعتبارها قضية احتلال واستعمار، فما حدث يوم السابع من أكتوبر ما هو إلا رد فعل بسيط على حجم ما تعرض له شعب فلسطين من مأساة متواصلة منذ 1948. إذ المسألة ليست صراعا بين دولتين تنازعتا على قضايا خلافية، ولا تهوّرا من فصائل لم تجد ما تصنع سوى مشاكسة جارتها على الحدود، المسألة واضحة لا غبار عليها ولا التباس في ماهيتها؛ شعب احْتُلّت أرضه ومُزّقت أوصاله وشُرِّد أفراده واغْتُصبت أقدس بقاعه، فهو يقاوم محتله بكل ما أتيح له من إمكانات، وهو يواصل فعله هذا منذ عشرات العقود، وهو يتقدم المرة تلو المرة نحو التحرير، وقد صنع لذلك مقاومة مبدعة بات بإمكانها أن تخترق الحدود وتنقل المعركة وتخوض الحرب وتفرض الشروط.
– استطاعت غزة أن تقدّم لنا شعبا عظيما، شعبا أسطوريا حقّا، ترك الجميع منبهرا برقي أخلاقه ومتانة وعيه وصلابة إرادته ورسوخ عقيدته. شعب يستصغر كل التضحيات، من نفسٍ وأهل ووالد وولد وبيت ودم وألم ووجع، من أجل أرضه وقدسه وأقصاه ومقاومته. شعب بات مضربا للأمثال في صبره على اللّأواء وصموده فوق أرضه واحتسابه في مواجهة الموت، الذي أراده العدو الصهيوني أن يكون آلية إكراه وقهر لكنه غدا مشهد اطمئنان ورضى بقضاء الله واختياره ولحظة استبشار بالشهادة. شعب ضرب أروع الأمثلة في الرقي والرسوخ واجتراح البدائل ومصانعة الصعاب. شعب تعجز كل الكلمات عن وصف عظمته مهما اجتهد الكتاب والمبدعون والشعراء والأدباء في الثناء والمدح. إنه شعب الجبّارين، شعب الطائفة المنصورة والأرض المباركة.
– أخرجت غزة لنا -بكل ثقة وفخر- بَنِيها وشبابها وقالت هؤلاء أبنائي فأخرجوا أبناءكم، هذه مقاومتي وهؤلاء جندي فأروني جندكم ومقاتليكم. غزة هذه الأرض الصغيرة والقطاع المحاصر من كل جانب، ورغم تكالب القريب والبعيد، ورغم سنين طويلة من الحصار حدّ دخول مقومات الحياة فبله أدوات النهوض والتصنيع والتطوير، خرجت منها مقاومة هي فخر الأمة اليوم، تُدرِّس العالم فنون الحرب وتكتيكات القتال واستراتيجيات إدارة المعارك. مقاومة باسلة ذات عقيدة قتالية تُقْدم على الموت فتوهب لها الحياة، وجنود مُدَرّبون بأعلى ما يكون التدريب وبأقدر ما تكون عليه الكفاءة، وتسليح جيد ومتنوع وفعال صنع معظمه تحت الأرض، وإدراك عال لكل مجالات وجوانب القتال العسكري وانتشار متقن على طول ميدان الصراع، وفوق كل هذا أنفاق باتت لوحدها معجزة الزمان ومحط انبهار العالم من حيث العدد والحجم والطول والتنوع والتجهيز والفاعلية. فلله درّك يا كتائب القسام وسرايا القدس وباقي فصائل المقاومة البطلة.
– أعادت غزة الاعتبار للأساس الديني وأوضحت كيف يمكنه أن يكون منطلقا في الرؤية وباعثا على الفعل؛ ففلسطين تكتسي مكانة قدسية لأن ديننا الإسلامي أعطاه إيّاها، والأقصى لا يمكن التفريط به لأنه في عقيدتنا أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والمقاوم المقاتل كما المواطن المدني حين يُقتل فقد اتخذه الله شهيدا وهذا مصدر فخر واستبشار لا ألم وانكسار، والصف المقاتل لا ينبغي أن يتراجع وينكص على وجهه هائما هاربا حتى لا يقع في التولي يوم الزحف، والآيات القرآنية التي تزيّن خرجات أبي عبيدة والتي تتصدر مرئيات الإعلام العسكري وأثرها في النفس والفهم، وقبل ذلك إعداد الإنسان بالتربية الحقة والعقيدة الصحيحة وبمدارس القرآن والتعليم الصلب. معية الله سبحانه، نصره للمؤمنين الصادقين، مدّه لهم بالملائكة والسكينة وبجند من عنده… كل ذلك وغيره عناوين واضحة لهذا الانبعاث العظيم للدين حين يكون فاعلا رئيسا في تدبير الإنسان ومعركة الوطن. هو إنجاز آخر أحدثته غزة باقتدار، كي يكون إسلامنا أساس الانطلاق وبوصلة المسير.
– أعادت غزة، وهي تقاتل عن نفسها وأبنائها ومقدساتها وأمتها، رسم خارطة طريق القضية، وجدّدت قولها، وهي تتلمّس خطوط العمل الوطني ومسارات مواجهة العدو الصهيوني، في جدلية المقاومة أم التسوية. وإذا كان نضج غزة وحنكتها، والذي أظهرت بعضه إبان فترات القتال والمواجهة كما في فترة الهدنة وتبادل الأسرى، يؤكد أن قواها الوطنية الحية وفصائلها الأصيلة حسمت في أن المقاومة المسلحة والقتال العسكري هو الخط والخيار، فإنها تدرك تماما أنه لا يكفي لوحده وأنه لا بد له من مسار سياسي يخلص إلى نتائج وعناوين للمرحلة السياسية المقبلة.
إن إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على قاعدة كيان وطني جامع، يبني على تضحيات غزة والضفة ومنجزات “طوفان الأقصى”، ويستميت في الدفاع عن انتزاع مكاسب مرحلية -دون التنازل عن الحقوق الأصلية- أبرزها دولة فلسطينية على حدود 67، من شأنه أن يتقدم بالقضية خطوات جبّارة على درب التحرير الشامل. ولعله إن تمكّنت القسّام وباقي الفصائل، بحسب ما هو متداول، من تحرير مروان البرغوتي أبرز شخصية في حركة فتح وأحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في صفقة التبادل القابلة، لعلّ من شأن ذلك -وتأسيسا على منطلقات ومكتسبات المعركة الجارية- أن يضع القضية برمّتها، سواء من حيث طبيعة الخط السياسي المقاوم والكيان الوطني الجامع والدولة الفلسطينية المرحلية، على أعتاب مرحلة جديدة ومغايرة.