ها قد أغلقت المدرسة الإلهية أبوابها وانطلق كل إلى حال سبيله دون شهادة تخرج. فكيف نعلم أننا وفقنا في استثمار رمضان ونلنا منه ما ابتغاه المولى لنا؟ وما مقياس فلاحنا وحصولنا على أحسن الرتب في الشهر المعظم؟
كن ربانيا ولاتكن رمضانيا
كما تصفد الشياطين في رمضان وتغلق أبواب النيران وتفتح أبواب الجنان؛ كذلك تفتح شهية العباد للطاعات، فيكثر الساجدون القائمون، ويزداد عدد المتصدقين والمقبلين على أعمال البر والإحسان، والكل يتحدث عن الطاعات وكيفية أدائها، وعن ما يقربه إلى المولى الكريم. غير أن بعض الناس أصبحت الشعائر التعبدية لديهم تحل محل العبادة الحقيقية، إذ تجد في مواطن العمل وفي المكاتب والإدارات… من لا يهمه إلا ختم القرآن مرات عدة ليضاعف له الأجر والثواب، ونسي أن الأجر الكبير في إتقان العمل!! وما إن يمر العيد حتى يعودون إلى عاداتهم القديمة، فمن كان يغش في بيعه أو عمله فإنه يعود إلى ذلك، ومن كان يضيع الوقت في المقاهي ومجالس اللغو فلا يتوانى عن فعل ذلك، ومن كان يتعامل بالربا أو الرشوة يعود إليها بعد أن احترم الشهر العظيم..
وهكذا رمضان تلو رمضان، وسرطان الفساد ينخر جسم أمتنا، ولو أن هذه الأعداد الغفيرة التي واظبت على الصيام وصلاة التراويح فقهت روح الصلاة ولب الصيام، وعلمت أن الشعائر التعبدية إنما هي وسائل لتزكى النفوس وتتطهر؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم تطويع للنفس وترويض لها ليتم امتلاك زمام أمورها حتى تنقاد ذليلة خاضعة إلى طاعة مولاها، فتساق إلى الحلال وتبعد وتزجر عن الحرام، والزكاة تطهر النفس من البخل والشح… لكانت أمتنا من أرقى الأمم. فرب العباد في رمضان هو ربهم في سائر الأيام، وما رمضان إلا محطة تدريبية يتزود منها الربانيون، وفرصة عمرهم، يتضاعف لهم فيها الأجر والثواب، حتى إن ودعوا رمضان كانوا أكثر قوة وأشد عزما على مواجهة النفس والشيطان.
شهادة تخرج بميزة حسن
إن الذين كتب الله لهم الفوز والفلاح، وتقبل منهم صيامهم وقيامهم، واطلع على قلوبهم وسرائرهم فأصلحها وأنارها بنور فضله وكرمه، وكتب لهم فضل ليلة القدر المباركة، واستجاب دعاءهم، وضاعف لهم الحسنات؛ هم الذين صاموا رمضان وقاموه إيمانا واحتسابا، وأخلصوا دينهم لله واعتصموا به دون سواه. لكننا جميعا نتمنى أن نكون من هؤلاء، فكيف نعلم أن ربنا الكريم اصطفانا واجتبانا، وأكرمنا بهذه المكرمات؟
يقول أحد الصالحين: (إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر أين أقامك). فإن تصفحت ثنايا نفسك بعد رمضان ووجدتها قد تطهرت وتخلصت من كادوراتها، وأصبحت صافية نقية يتجلى صفاؤها أثناء تعاملك مع الناس أجمعين باللين والرحمة، ابتداء من والديك؛ فتطيعهم وتخفض لهم جناح الذل من الرحمة، ثم زوجك وذريتك؛ فـ“خيركم خيركم لأهله..” كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجيرانك حيث أقسم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، ثم في علاقاتك مع أقاربك وذوي رحمك، فالرحم اسم مشتق من الرحمن؛ من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله، والوصل لا يكون بالزيارة فقط بل بتفقد أحوالهم ومساعدتهم على قضاء حوائجهم، وقمع النفس عن حظوظها ليكون تعاملك معهم خالصا لوجه الله الكريم، لا تبتغي منهم جزاء ولا شكورا.
وكذا إكرام ذوي الحاجة والمعوزين، ودعوة الناس للخير وإلى مائدة الرحمن برفق ويسر. ثم التهمم لأمر هذه الأمة التي طال سبات أهلها، وتمادت أيادي أعدائها في إذلالها والتطاول عليها، فـ“من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم للمسلمين فليس منهم”، كما علمنا نبينا الكريم.
فمن حصل على مجموع هذه الخصال أو جزء منها في هذا الشهر ويسعى إلى استكمالها في الأشهر المقبلة إن أطال الله في عمره – وتكفيه النية -، فقد أحسن استثمار رمضان، ونال شهادة تخرج بميزة حسن، لأن الدين حسن الخلق فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وإن أقرب الناس مجلسا يوم القيامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.
جعلني الله وإياكم ممن يحسنون فهم دينهم، ويحسنون اتباع نبيهم صلى الله عليه وسلم. وجعل لنا نصيبا في نهضة أمتنا وعزتها بتحلينا بمكارم الأخلاق. فلا نهضة بلا أخلاق كما قال الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا