لا يلبث الخطاب الرسمي المغربي إلا قليلا حتى يعود إلى اعتبار قضية التعليم أو التربية والتكوين أولوية المرحلة، فقد أحصى المغاربة ما يزيد عن ثلاث محطات مفصلية خلال فترة حكم الملك محمد السادس تم فيها اعتماد المدرسة والجامعة المغربيتين مدخل الإصلاح الشامل. لكن للأسف الشديد يمكن تلخيص نتائجها بامتياز في المقولة الشهيرة: جعجعة ولا طحين).
أحرص هو أم العبث بعينه؟
خلال الفترة المذكورة نفسها، تتبع المهتمون التناقض الصارخ بين الوقائع والخطابات. في الإعلام الرسمي لا نسمع عن مسؤولينا إلا الخير والحمد لله: المغرب تجاوز عنق الزجاجة وخاض مشاريع الأوراش الكبرى للإصلاح، المغرب خارج دائرة الدول المتضررة بالأزمة الاقتصادية العالمية، المغرب الدولة القوية في جنوب المتوسط وتحظى بالاحترام والتقدير من الولايات المتحدة، المغرب متقدم على دول المنطقة من حيث الاستقرار وجلب الاستثمار الخارجي ورؤوس الأموال. هذا في الوقت الذي نرى فيه ونسمع التقارير الدولية الصادمة: في المغرب لا تزال بؤر للتوتر الاجتماعي في الشمال والجنوب والوسط، في المغرب السجون تفتقد إلى المعايير المطلوبة دوليا، لا يزال في المغرب معتقلون سياسيون بالجملة، الحراك الاجتماعي في المغرب مرشح لأن ينبعث من جديد إن استمر الوضع على ما هو عليه، الاعتقال على خلفية الانتماء السياسي لا يزال سياسة معتمدة في المغرب… كما أن التقارير الإقليمية والدولية لا تتوقف عن تحذير المغرب من مخلفات اختياراته السياسية والاجتماعية من خلال تصنيفه في ذيل الترتيب الإقليمي والدولي ذي الصلة، متأخرا بذلك عن دول الحروب الأهلية والأزمات الاقتصادية، بل والاحتلال وقلة الموارد.
لنرجع إلى قضية التعليم نقاربها باختصار من خلال قضايا ثلاث نراها في نظرنا مفصلية:
قضية مدخل الإصلاح
لا نحتاج إلى خبرة كبيرة أو مراكز دراسات شهيرة حتى نقف على إفلاس المنظومة، لأنه بمجرد وقوفك أمام مؤسسة تربوية من مؤسسات بلدنا الحبيب، أو من خلال مجالستك لأحد رجال أو نساء التعليم والاستماع إلى خبر حال البيئة التعليمية، أو من خلال تتبعك لحوارات التلاميذ والطلاب حول أجواء التحصيل العلمي ببلدنا، تتكشف أمام عينيك حجم المأساة. الحقيقة أننا لم نعد أمام منظومة تعليمية بالنظر إلى الواقع المزري والمقاربات الضالة والشاردة التي تتبناها الدولة في حق هذا الورش الاستراتيجي. فكيف يعقل أن تقارب الدولة التعليم مقاربة مقاولاتية أساسها الربح المادي وما ينفق وما يجلب بعيدا عن أهداف سامية أصبحت بحكم الواقع نكرة، من منا قرأ أو سمع في مشاريعنا الوطنية “للإصلاح” كلمة “الواجب العلمي أو المعرفي” أو غيرها من المفاهيم الأصيلة في مرجعية أمة “اقرأ”، متى كانت المدرسة والمؤسسة التعليمية جحيم المعلم والمتعلم ومتى ومتى؟ من مظاهر اللاعلم واللاتربية.
إن ديننا الحنيف ارتقى بالعلم من مستوى القيمة إلى درجة الفريضة، فهل استطاعت الإصلاحات المتوالية أن تعتبره كذلك. إن ديننا شرع كل الوسائل لإشاعة العلم وشرع معاقبة كل من الجاهل الذي لا يريد أن يتعلم، والعالم الذي لا يريد أن يعلم (واقرأ في الباب إن شئت حديث المعلم الكريم صلى الله عليه وسلم الذي هم أن يدمر الديار على الجهال المتهربين من العلم والعلماء المتقاعسين عن التعليم).
لا مدخل غير اعتبار التعليم قضية الأمة لا قضية السياسة والمزادات، لأن الواقع يثبت أنه عندما كان أجدادنا يقطعون المسافات مع الجوع العطش لطلب العلم والقرآن (التخناش نموذجا) كان وازعهم العلم الذي يرفع صاحبه درجات (اقرأ وارق)، و لم يكن الوازع آنذاك لجان مراقبة أو “خطا أخضر” يرصد العورات ويزيد الأحقاد بين مكونات وأطر المنظومة التربوية. فلا سبيل لكسب الرهان إذن إلا بانطلاقة واحدة صحيحة لا أكثر، أن تمنح الدولة نفسها مسافة عن ضغوط المنظمات الدولية المانحة التي تريد مصالحها ولا تريد التقدم لأحد، فكفانا ذلا أن نعتبر تعليمنا الجامعي ناجحا بتخريج قوافل من التقنيين الذين يتقنون إصلاح وتركيب الحواسيب القادمة من عند الأسياد من وراء البحار، وكفانا مهانة أن تتحول المدرسة العمومية بمرافقها المقفلة وحجراتها الوسخة إلى حلبات مصارعة بين المدرس والمتعلم، نريد أن نصنع ما نشاء وبالاسم والتركيبة والكيفية التي نشاء، نريد جامعة مبدعة متحررة يعيش فيها الطلاب حقيقة الإبداع وواقع الدعم والاحترام والتوجيه والتقدير، نريد مؤسسات نظيفة نظافة العقول والصفحات البيضاء التي تلجها. كفانا من المقاربات الأمنية والأسوار العالية والفرق الأمنية الخاصة، كفانا زخرفة للمداخل وموائد وشعارات ومطبوعات ملونة تروج الكذب وتزوير الحقائق. نريد مدرسة عمومية يعتبر فيها المدرس والتلميذ والإطار التربوي نفسه مسؤولا عن الجودة والتربية والتعليم والتأطير، نريد أن تتعامل الأطراف بوازع الواجب لا تحت طائل المراقبة.
قد يقول قائل إن هذا كلام طوباوي مثالي، فلمثل هذا نقول: انظر حواليك وإليك، من تريد وترضى لتدريس ابنك أو بنتك؟ هل هو صاحب الضمير أم البارع في نقل الأخبار وإذكاء النعرات والحريص على تنمية ثروته على حساب العلم و المتعلمين؟ بالتأكيد سيكون اختيارنا واختيارك الأول بلا منازع، لذلك نقول إن مدخل الإصلاح هو تكاثف الجهود، وتحديد طبيعة المجتمع الذي نريد، هو مجتمع العلم لشرفه وقدره وجلاله؟ أم مجتمع البيع والشراء باسم المعرفة، وتحمل الشعب ممثلا في الأسرة المجتمع مسؤوليته في تحرير المنظومة من أسر الدولة وسجن التعليمات العابرة للقارات التي أصبحت وحيا يسبح بحمده الحاكمون ولا يرون إصلاحا إلا في ظلالها ويعتقدون البعد عنها فشلا مسبقا ومحتما.
قضية الشراكة
شيء جميل أن تستطيع الدولة الخروج من مركبها النفسي الذي كانت تعتبر من خلاله أطراف العملية التعليمية فرقاء، لكن لا يكفي أن تخاطبهم بالشركاء لطي الصفحة، لأنه لا معنى للشراكة مع الفردانية في تحديد التوجهات العامة والبرامج والمناهج ثم المناداة على الأطراف للإشراف على عملية التنزيل. الشريك الحقيقي شريك في كل أطوار العملية من تحديد التصورات وتقدير المواقف واعتماد المناهج وتخطيط البرامج واختيار الكفاءات.
بناء على ما تقدم من حديث حول مدخل الإصلاح الحقيقي، يمكن الجزم أن الشراكة هي ضمانة وحصانة الإصلاح الاستراتيجي، لأن قضية التعليم بالبلد لم تعد قضية فشل سياسة من السياسات، بل تداعياتها تجلت بالواضح سلبا في كل مناحي الحياة، فأية أخلاق ترتجى لناشئة لا تعرف عن دينها إلا الفتات جراء سلخ البرامج من المقوم الإسلامي من خلال التخلي عن حصص القرآن الكريم وتعاليم الإسلام لصالح قضايا أخرى تحت طائلة الضغط الدولي ممثلا في المؤسسات المانحة؟ وأية أطر مأمولة تلك المتخرجة تحت وطأة العقلية الأمنية والبوليسية؟ وأي انعكاس إيجابي ننتظر من تعليم يخرج الطاقات المهدرة اليائسة المقهورة المنكوبة في شوارع العاصمة من فرط تعنت الحكومات المتعاقبة؟
ما يرجى من الشراكة الحقيقية هو انتزاع التعليم من أنياب السياسة والإدارة إلى فضاءات الحوار الشعبي. ما يريده المغاربة هو تعليم شعبي تنظيرا وتقريرا وإنجازا، وهو الواجب الغائب عن تفكير الدولة وإراداتها نظرا لسجنها تحت رحمة التعليمات وانبطاحها أمام التجارب العالمية في صورها الحديثة والمبنية طبعا وفق مقاربات وأرضيات ومنطلقات وعقليات تختلف كليا عما هو الحال ببلدنا، بل يمكن أن تناقض في بعض منطلقاتها أصولنا وهويتنا.
ومن غير المعقول تماما أن يتكرس لدى الدولة وفي أذهان من تصفهم الدولة الآن بالشركاء لتنفي الصفة عن الباقي، أنهم لوحدهم المؤهلون لمقاربة المنظومة التربوية ببلدنا، فهي سياسة ممنهجة لتهييج الفرقة حتى بين الشركاء الحقيقيين المنتظرين وتحويل بعضهم إلى مخبرين عن البعض الآخر لدى الدولة.
مجمل القول في قضية الشراكة أن المطلوب وبإلحاح ليس الانفتاح على المهتمين كما تزعم الدولة، ولكن الحوار المفتوح في وجه الجميع، ومن غير وصاية أو توجيه، وفتح أوراش النقاش الشعبي بالمؤسسات التعليمية والجامعات والتجمعات الشعبية للوقوف عند المشاكل الحقيقية والاستماع إلى تجارب من تعج بيوتهم بضحايا العملية التعليمية الحالية من خريجين عاطلين أو متعلمين يائسين أو منقطعين ساخطين على العلم وأهله.
قضية الإنتاجية
نعم نريد تعليما منتجا كما يريده الجميع، لكن عن أية إنتاجية نتحدث؟ ينبري أطر الدولة المتخصصة في التربية والتكوين لتوضح رؤيتها لمفهوم الإنتاجية، حيث يتلخص المفهوم في نظرهم – ونظر الساسة طبعا- في تخريج “أطر” قادرة على الاندماج في سوق الشغل. هدف مهم ونبيل. لكن السؤال البديهي المطروح: ما هي هذه السوق التي يتوجب على المستثمر تخريج بضاعته وفقها؟ أستسمح لاستعمال كلمة “بضاعة” لكنني أراها المفهوم الأقرب لتسمية هذه الأطر المغلوب على أمرها وفق ما تنظر به الدولة في مشاريعها “الإنتاجية” إلى التعليم.
من يشنف مسامعنا الآن بكثرة الحديث عن سنفونية التعليم غير المنتج نسأله سؤالا بريئا براءة هذه الأجيال التي جربت فيها المشاريع المستوردة المتتالية؟ إن الإنتاج أيا كان نوعه فهو نتيجة عمليات منسقة تسميها العلوم المختصة بـ”إدارة الإنتاج”، فهو (الإنتاج) بلا شك من جنس الإدارة الناتج عنها وسليل الإدارة التي نسل عنها. فأية إدارة تم اعتمادها من قبل هؤلاء الساسة المتملصين من مسؤولياتهم في حق العملية التعليمية؟ وإذا لم يستطع المنتوج أن يكون في المستوى المطلوب؟ إن العيب ليس فيه بقدر ما هو في مجموع العمليات المعتمدة والوظائف التنفيذية التي تسير الورش بأكمله. فالمتعلم المتخرج إذن نتيجة حتمية لعملية إدارية منسقة من تصميم وتخطيط الموارد وجدولة محكمة وترسيم النشاطات الإنتاجية ومراقبة نشاطات الإنتاج، ولا ينتظر أن يكون الإنتاج مرضيا إذا تم إهمال كل هذه العمليات أو تم تسخيرها بكيفية غير علمية وغير منسقة. من يزرع الريح يحرث العاصفة.
لنسلم أن العمليات الإدارية والتنفيذية لإصلاح المنظومة قد تمت على النحو المطلوب، كيف يعقل أن يتحكم الاستثمار ورأس المال العالمي والمستثمر الأجنبي وصاحب المقاولة والشركات العابرة للقارات في تطلعات شعب ومقومات أمة وطموحات عقول متعطشة إلى المعرفة والعلم؟ لقد خاب الأمل حقا عندما أصبح مصير أجيالنا بين مطرقة المستثمر وسندان منظومة متهالكة.
إذا كانوا يريدون أطرا معجونة على هذه الشاكلة، فالأولى لهم أن يستوردوا كميات كافية من الأنظمة الحاسوبية والرجال الآليين المبرمجين ويمنحوهم الجنسية المغربية إلى حين انتهاء مهامهم، ولا داعي لإهدار هذه الأموال الطائلة وفتح الصناديق دون رقابة بدعوى أولوية التعليم. كفى استهتارا لأنه لا يعقل أن يعتمدوا هذه المناهج والبرامج في مؤسسات التعليم الأولي والثانوي ويتبرؤوا منها في الجامعة على اعتبار أنها تخصصات مفتوحة لا تستجيب لسوق الشغل. فمتى كان الناس يتعلمون القرآن ليتأهلوا به إلى سوق الشغل؟ ومتى كان الطلاب يتعلمون نظرية النسبية وزحزحة القارات والانفجار العظيم وأصول الفكر الإنساني وتداول الحضارات وغيرها من فروع العلم للبحث عن لقمة عيش في سكرتارية مكتب أو مؤسسة خاصة؟
إنهم باختصار، يحتقرون هذه العقول ولا يريدون لها علما ولا معرفة ولا حتى خبرا عن ذلك. وإنما يريدون تدجين المعلم والأستاذ وطالب العلم وحشره في سرب قوم اشتروا الدنية من الأسياد طائعين دون إكراه.
فما جدوى أولوية التعليم في غياب الإرادة؟