مقدمة
عاشت مدينة مراكش الحمراء حينًا من الزمن قبلة للأنظار، ومشرقا للأنوار في جميع أصناف العلوم، حيث نشأ فيها ودرج أئمة أعلام وهامات كبار، أثلوا تاريخًا مجيدًا، رسخ عند أذهان العوام سبعةٌ لا غيرَ من شوامخ الرجال، على سنن الفقهاء السبعة الذين أخذ عنهم إمام الهجرة مالك بن أنس، فكانوا كما قال قائلهم:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر ** روايتهم ليست عن العلم خارجه
فقل هم يوسف بن علي الصنهاجي، القاضي عياض، أبو القاسم السهيلي، أبو العباس السبتي، محمد بن سليمان الجزولي، عبد العزيز التباع، عبد الله الغزواني.
لكن عند الاستقصاء والاستقراء، نجد أن مدينة الحمراء أنجبت الكثير ممن ضرب التاريخ عن ذكرهم الصفح، فكانوا كنظائرهم من علماء المغرب الأقصى، حيث لم يشفع لهم نبوغهم في العلم أن يحظوا بالشهرة كعلماء المشرق، حتى مثّل لهم ابن حزم الظاهري في قوله:
أنا الشمس في جو العلـوم مـنيرة ** ولكن عيبي أن مطلعي الـغرب
ومثله الزمخشري في قوله:
وأخّرني دهري وقدّم مَعشرا ** على أنهم لا يعلمون وأعلم
ولقد عدّ العباس بن إبراهيم التعارجي المراكشي في كتابه الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) أكثر من ألف وست مائة “1600” من علماء وأدباء وأولياء وصلحاء وغيرهم، سواء كانوا من أهلهما أو من غيرهما.
لذا يممت تقريب الأفهام بالتعريف بثلاثة من أعلام مراكش خصوصا في علوم القرآن والتفسير، والذين لم يحظوا بالشهرة إلا عند أهل التخصص، مع الإيجاز قدر الإمكان، وهم الأئمة “ابن برَّجَان” و”ابن البناء” و”الحرالي” رحمهم الله، عسى أن ندرجهم في دعائنا بعد أن نقدر جهودهم ونعرف مكانتهم، فلا خير في أمة لا يعرف آخرها فضل أولها.
ابن برَّجَان الأندلسي دفين مراكش
ترجم له الإمام الذهبي وغيره بقوله الشَّيْخُ الإِمَامُ العَارِفُ القُدْوَةُ، أَبُو الحَكَمِ، عَبْدُ السَّلاَم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اللَّخْمِيُّ، المَغْرِبِيُّ، الإِفْرِيْقِيُّ، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ، الإِشْبِيْلِيُّ، شَيْخُ الصُّوْفِيَّةِ) 1 ، إلا أن ابن الأبار القضاعي سماه في كتابه “التكملة لكتاب الصلة” بأبي الرجال، مخالفا لما في سائر الكتب التي ترجمت له، وزاد ابنُ الأَبَّارِ: كَانَ مِنْ أَهْلِ المَعْرِفَةِ بِالقِرَاءاتِ وَالحَدِيث، وَالتَّحْقِيقِ بِعِلْمِ الكَلاَمِ وَالتَّصَوُّفِ مَعَ الزُّهْدِ وَالاجْتِهَادِ فِي العِبَادَةِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا “تَفْسِير القُرْآن” لَمْ يُكْمِلْهُ، وَكِتَابُ “شَرْحِ أَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى”) 2 .
عاش ابن برجان أكثر من ثمانين سنة، وعاصر دولة المرابطين من أولها إلى آخرها، حيث توفي في المحرم سنة 536 هـ مُغَرَّباً عَنْ وَطَنِه بِمَرَّاكُشَ، وَقبرُهُ بِإِزَاءِ قبْرِ الزَّاهِدِ الكَبِيْرِ أَبِي العَبَّاسِ بنِ العَرِيف، برحبة الحنطة، معروف وتقول له العامة: سيدي أبو الرجال. وذلك على بلوى أصابتهما نذكره بعد حين.
برع ابن برجان في علوم القرآن خاصة، فجهده فيها معتبر، فقد اتفق من ترجموا له على أنه إمام مشهور في التفسير، وأنه كان من أهل المعرفة بالقراءات. وقد أكثر القرطبي نقل أقواله وآرائه عن تفسيره للقرآن، ويستشهد بأقواله هذه مع كثير من الاهتمام والاعتبار، وكذلك الزركشي، ورد عليه ابن تيمية وناظره في مسائل متفرقة.
أما تفسيره الموسوم بـتنبيه الأفهام إلى تدبر الكتاب والتعرف على الآيات والأنباء العظام)، فيعتبر من أهم المؤلفات التي أنتجها علماء الغرب الإسلامي تركة مباركة للأمة جمعاء.
وأغرب ما جاء في تفسيره ما ساق الحافظ ابن كثير وغيره وعنونه نكته غريبة) فقال:
تَكَلَّمَ شَيْخُنَا مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ فَقَالَ: وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ أَبِي الْحَكَمِ الْأَنْدَلُسِيِّ -يَعْنِي ابْنَ برَّجَانَ- فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ إِخْبَارٌ عَنْ فتْحِ بيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُ يُنزَعُ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ).
وذلك قبل فتح المقدس بستين سنة أي فِي حُدُودِ سَنَةِ ثِنْتيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ فِيمَا زعم مِنْ قوْلِهِ)الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بعْدِ غَلَبِهِمْ سَيغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ فَبنَى الْأَمْرَ عَلَى التَّارِيخِ كَمَا يفْعَلُ الْمُنَجِّمُونَ، فذكر أنهم يغلبون في سنة كذا وكذا، ويغلبون في سنة كذا كَذَا، عَلَى مَا تقْتَضِيهِ دَوَائِرُ التَّقَدْيرِ، ثُمَّ قال: وهذه نجابة وافقت إصابة، إن صح، قَالَ ذَلِكَ قَبلَ وُقُوعِهِ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ قبْلَ حُدُوثِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ علم الحروف، ولا من باب الكرامات والمكاشفات، ولا ينال في حساب، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ فِي تفْسِيرِ سُورَةِ الْقَدْرِ أَنَّهُ لَو عَلِمَ الْوَقْتَ الَّذِي نزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لَعَلِمَ الْوَقْتَ الَّذِي يرْفَعُ فِيهِ) 3 .
قال ابن خلكان في تاريخه: ولما وقفت أنا على هذا البيت وهذه الحكاية لم أزل أتطلب تفسير ابن برجان حتى وجدته على هذه الصورة، لكن كان هذا الفصل مكتوبا في الحاشية بخط غير الأصل، ولا أدري هل كان من أصل الكتاب أم هو ملحق به، وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراج ذلك حتى حرره من قوله بضع سنين) 4 .
وكما أن كل ذي نعمة محسود، فقد حاول أقرانه الوقوع به عند الأمراء، فكان سببا في ابتلائه وموته، كما ذكر ذلك ابن حجر: ولما أحضر إلى مراكش قال: والله لا عشت ولا عاش الذي أشخصني بعد موتي. وعقدوا له مجلس مناظرة وأوردوا عليه المسائل التي أنكروها فأجاب وخرجها مخارج محتملة فلم يرضوا منه بذلك لكونهم لم يفهموا مقاصده وقرروا وكذلك السلطان أنه مبتدع. فمات فأمر أمير المسلمين أن يطرح على المزبلة ولا يصلى عليه، وكان أبو الحسن علي بن حرزهم (وهو معروف عند العامة بسيدي حرازم) يومئذ بمراكش، فأمر رجلا ينادي في طرق مراكش وأسواقها: يقول لكم ابن حرزهم: احضروا جنازة الشيخ الفقيه الصالح الزاهد أبي الحكم ابن برجان، ومن قدر على حضورها ولم يحضر فعليه لعنة الله، ففعل ما أمره. وبلغ ذلك أمير المسلمين، فلم يعترض عليه وقال: من عرف فضله ولم يحضر جنازته فعليه لعنة الله، فامتلأت الرحاب بالناس فغسلوه وصلوا عليه ودفنوه، واتفق أن علي بن يوسف مات بعده في رجب سنة سبع وثلاثين) 5 .
ليس الغرض استيفاء جميع حياة هذا العلامة الفذ، ولكن حسبنا أن نشير ببعض الجوانب من سيرته، فرحم الله ابن برجان وجزاه عن الإسلام خير الجزاء.