في دوامة التيه والحيرة تكبلني الهموم والأحزان، وتنهمر الدموع من العيون الناظرة إلى السماء بتمعن من ضاق به المكان، عسى طائرا يطير في السماء يأتيه ببلسم وترياق من جعلهم الله معينا وخير زاد في دنيا موَّارة فتانة مشتِّتة عن إرادة المولى الحنان. قال الإمام الشافعي: “سلام على الدنيا إذا لم يكن فيها صديق صدوق صادق الوعد منصفا”؛ صديق على الخير معينا، صدوق ناصح ولإخوته خير مأوى، صادق القول، له عند الله مطلب، وبكلمة جامعة: أخ للشدائد مدخر، وفي طريق المولى رفيق وخير نصير.
من هنا الطريق
“من هنا الطريق” قالها صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين اشتد أذاهم، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، دعاهم إلى الفرار إلى الله تعالى بدينهم، قاصدين المدينة مجمع من آمن وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصرة.
استجاب الصحابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهاجروا، واستجاب أهل المدينة فنصروا، وما هان على هؤلاء ترك المال والديار، وما سهل على الآخرين مواساة إخوانهم بإيثار الأهل والديار والمال، إلا لتمكن الإيمان من قلوبهم أجمعين، وهجرة كل منهم طبعه وشحه وهواه، وارتقاء همتهم لطلب الزلفى من الله المولى.
كان أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند استقراره في المدينة المنورة أن آخى بين المهاجرين الفارين بدينهم وبين الأنصار؛ حِضْن الدعوة ومأواها، إخاءً أنالهم رضى من الله وتأييدا، قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ (التوبة، 100)؛ رضى جعل الله لنا معاشر المومنين منه نصيبا إن نحن اتبعناهم بإحسان وسلكنا طريقهم.
فالهجرة ولازمتها النصرة تتجدد معانيهما متى وجد على الأرض مؤمنون تائبون لله مريدون، يقول صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها” (رواه أبو داود، ص 288).
لا تتطلب هجرتنا الآن انتقالا من مكان لمكان، لكنها تستوجب منا هجرة العادة والانتقال إلى رحاب العبادة ذكرا وتسبيحا، تستوجب منا السعي الدؤوب لإقامة العدل في أرض الله، تستوجب منا بالضرورة تكتلا وترابطا إيمانيا جماعيا وتنظيميا، ترابطا كان وما زال مصدر طاقة المؤمن في سيره إلى الله وتعبده له، ومصدر فلاح ونجاح لكل من حمل هم إحقاق العدل في دولة الإسلام. قال الله عز وجل على لسان سيدنا موسى حين بعثه لفرعون داعيا: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (طه، 29 – 34).
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “ما كانت الهجرة حدثا تاريخيا فريدا انقضى، بل هي معنى وسلوك واختيار، هجرة الأفراد الإيمانية الخلقية الإرادية، تتبعها هجرة كل منهم نحو إخوته، وانضمامه إليهم، وانتظامه معهم. ويتكون صف الجهاد لإعادة الخلافة على منهاج النبوة. كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الأنبياء، من الآية 104)” (المنهاج النبوي، ط 1989/1، 193).
بهذا تكونت قوة الإسلام وقوة نجوم الإسلام من أمثال الصحابة الكرام، هجرة قلبية وذلك بعقد العزم على طاعة الله عز وجل وعبادته وترك محارمه، وهجرة نحو إخوان الإيمان يشد بعضهم أزر بعض، بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر وحمل راية الدعوة والجهاد. صحابة كانوا وما زالوا نجوم هداية؛ إذا بهم اقتدينا اهتدينا ولرضى ربنا تعرضنا.
فاللهم ارزقنا هجرة من المعصية إلى الطاعة، ومن الفُرقة إلى الجماعة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الفتنة إلى العصمة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الذلة إلى العزة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الظلمة إلى النور، برحمتك يا من إليه تصير الأمور.