استهلال
لا أحد يختلف حول الدور الهام والرئيس للتنمية في الرقي بالمجتمعات وتحسين وضعية سكانها، إذ هي نبراس تستنير بها الإرادة الإنسانية إن هي تأثلت على أساس رصين يمكنها من مواصلة المسير ومقاومة المطبات، فهي ضوء ينقشع في الظلام إن كانت السياسات التي تؤطرها ذات نجاعة واقعية ومشفوعة بإرادة سياسية حقيقية مجردة من كل وهم وزيف.
لقد أصبح خطاب التنمية الذي يتلفع بمظاهر مختلفة براديغما مهما لبلورة مدى أهمية الخطط التنموية المتخذة من طرف دولة معينة تجاه القضايا الاجتماعية المطروحة، فهو مرآة يعكس الإرادات ويترجم النوايا، لكن إذا حصل اتساق وتطابق بين ما يلاك بالألسن أو ما احتضنته التقارير والواقع الذي يعد المحتضن الفيصل والحكم العادل.
إن هذا المعيار أصبح محط جدل سياسي واسع، فأصبحت الرؤى متعددة ومختلفة من كيان فكري إلى آخر، وهذا ما حدا بنا إلى أن نضم أصواتنا إلى مقترب فكري ينظر إلى خطاب التنمية بنظر حصيف يغربل المزاعم ويقوي الإرادات، ونسحبها من التصورات الفكرية المشوبة بالأنانية المستعلية والوصولية الضيقة، لأنها ساهمت في نفض الغبار عن الوهم لينتعش من جديد وأبقت الحقيقة جامدة معتقدة أن الزمان سيطويها وستطمس باللا اكتراث واللامبالاة، لكن أنى لهم ذلك، فخطاب التنمية يلزم أن يكشف ويعرى من كل الطلاسيم، ليعبد الطريق اللاحب نحو تنمية تستمد نجاعتها وقيمتها من الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها والرؤية التي تتغياها.
خطاب التنمية وتنمية الخطاب
بين خطاب التنمية وتنمية الخطاب علاقة جدلية، فإذا كانت الظروف التي يترعرع فيها الخطاب الرسمي هي ظروف تطبعها الشفافية والمصداقية والمسؤولية، فإن تنمية الخطاب ستعطي أكلها وتظهر ثمارها في المجتمع ونظامه السياسي والقيمي والثقافي، لكن إذا أصبح الخطاب الرسمي زائفا ويجسد أدلوجة فكرية، فإن كل تنمية متوخاة لن تتعدى بطون الأوراق.
بناء على هذه المفارقة يتضح أن خطاب التنمية ليس غاية في ذاته بقدر ما هو مرآة للوجود الفكري للسياسة التنموية للدولة المعنية، وكل خطاب يحوي في طياته تناقضات فهو وسيلة لتكميم الأفواه وتدجين الأذهان وطمس الحقائق التي تدرك بالأعين، وكل اتساق منطقي وواقعي بين الخطاب والواقع فهو يعكس الإرادة القوية والنوايا الصادقة التي تجسدها الخطط والبرامج، وتبرهن على مصداقيتها ونجاعتها المثمرة كل رقي فكري أو معنوي قيمي يحصل في المجتمع، وما عدا ذلك فالموضوع يقتضي المساءلة والنقد والتمحيص.
إن الدولة التي يسود فيها التدبير المؤسساتي للتنمية وفق رؤية لاحبة هي التي تحقق نجاحا باهرا في النتائج والثمار، ويزداد ذلك قيمة ونجاعة إن متح أسسه ومبادئه النظرية من المعين الفكري الصافي، والمنهل الهوياتي الرصين وفق مشروع فكري متكامل يجسد إرادة الأمة المنهوكة قواها بفعل أسباب مختلفة ليس المقال مجال للحديث عنها.
المغرب يجسد المفارقة الغريبة
تساءل الناس وما زالوا يتساءلون عن مدى نجاعة المخططات التنموية التي تتضمنها الخطابات الرسمية للدولة المغربية، والواقع يعج ويمج بشتى مظاهر السلب والحيف والإكراه. إن التساؤل أمر منطقي ومشروع ما دامت دوافعه واقعية ومقبولة، ويستمد قوته وصلابته إن كان يتموقع ضمن مقترب فكري يرمي إلى تقديم البدائل وجرد الحلول الكفيلة بتغيير قتامة الأوضاع وإحداث قطيعة مع كل فكر جامد مخروم.
إذا ألقينا نظرة عامة حول مجموعة من السياسات التي تتخذها الدولة في المجال التنموي، وفي العديد من الميادين يمكن أن نسجل الملاحظات التالية:
1- التنمية خادمة للأدلوجة الرسمية
عندما يهيمن الهاجس السياسي والأمني والمنفعة الذاتية الضيقة تضيع فلسفة التنمية بمبادئها المعروفة، فتصبح بذلك وسيلة لتمرير الأفكار الرسمية، والسعي نحو تثبيت ركائز تاريخية متوارثة، بل يصبح كل مخطط تنموي تجسيد لإرادة سياسية ضيقة، بحيث تغيب وسطها النجاعة المؤسساتية وتنتفي المحاسبة والمساءلة، لتصبح التنمية مجرد خدمة مظروفة بحيثيات منفعية معينة، وليست واجبا يلزم الجميع وتفرض على كل من يحكم البلاد ويسوس شؤون العباد.
إن تلفع التنمية برداء الوصولية والمنفعة الذاتية هو نخر لجوهرها ومساهمة في تنمية الاستبداد الفكري والسياسي والاجتماعي، وتخلف عن حركة التاريخ، لذلك فلا مناص من مراجعة الخطوات ومساءلة الذوات لتجاوز الهفوات وتلافي الكبوات. ولن يتم ذلك إلا بالتئام الإرادات وفق رابط تعاقدي فكري يتجاوز الأنانيات ويسع الجميع ويتحرر من إسار جرف العادات.
إن الخطاب الذي تلوكه ألسن العوام من الناس يجسد هذا الترابط القائم بين التنمية وخدمة الأدلوجة الرسمية، فكل تدشين لمشروع تنموي معين يحمل معه أفكار ذات بعد استراتيجي ويغيب في الآن ذاته كل عمل مؤسساتي، بل قد يضرب بكل تعددية سياسية مشاركة ضرب الحائط في مجال الحقل السياسي التدبيري.
وهذا يؤكد ما أشار إليه الخبير في الاقتصاد هشام عطوش في مقاله اقتصاد المغرب في أرقام) بقوله إن الاستراتيجيات الاقتصادية القطاعية والاتفاقيات الاقتصادية الدولية البينية أو المتعددة الأطراف وما يرافقها من إعادة تموقع الرأسمال العائلي المسيطر والمتحالف أحيانا يؤكد ما جاء منذ أزيد من 18 سنة في كتاب عبد الحميد براهيمي “Le magrheb à la croisée des chemins” أن من ينسج اقتصاد المغرب ويحدد استراتيجياته واتفاقياته هو المخزن ومن يدور في فلكه. وهذا يعني أنه لا مجال للحديث عن الثروة في غياب السؤال عن توزيعها والشفافية في إنتاجها والعدل في تقاسم الأعباء الناتجة عنها واحترام الحقوق الاقتصادية للأجيال القادمة) 1 .
إن إضفاء المشروعية على بعض الأفكار السياسية التي تزكي التقوقع التدبيري، يحول دون تحقيق تنمية حقيقية تراعي الخصوصيات السياسية والثقافية للواقع، وكل خطاب تنموي يقوم على ذلك الأساس ويجاري نفس المنطق السائد هو خطاب أحادي الوجهة والهدف، ويهمه المقصد أكثر مما يهمه النهج التنموي المشروع والواضح.
عندما تتحكم وزارة الداخلية -باعتبارها الوجه الظاهر للدولة العميقة- في سيرورة تنفيذ المخططات التنموية وترجمتها إلى مشاريع تنموية تغيب الشفافية والمصداقية والوضوح في التعاطي مع الواقع، وخصوصا إذا كانت الظروف السياسية مشوبة بأدلوجة رسمية قاموسها الحيف والاستبداد وسلب الحريات.
إن التنمية حرية كما يقول أمارتيا صن في كتابه “التنمية حرية”، أي أن نجاعة كل خطاب تتوقف على مدى تحرره من إسار أغلال فكرية مقدسة، ومن البيروقراطية المكبلة للسيرورة الطبيعية لإقامة مشاريع تنموية تعود على الناس أجمعين، وكل تيه وتحريف سيضلل مسار التنمية الحقيقية، بل قد يُظهر تناقضاتها في الخطاب قبل الواقع.
2- مخططات تَستنزف العتاد وتنمية وهمية
إن المتتبع للشأن التنموي بالمغرب في الآونة الأخيرة سيستشف على أن الدولة تعير اهتماما كبيرا للمخططات والخطابات التي تلازمها أكثر من التنمية نفسها، وسيرورة بلورتها نظريا تستنزف طاقات بشرية ومادية هائلة بدون أن يلوح في أفقها مبشر أو مؤشر نجاح، بل يسجل أحيانا نقل سلع تنموية من بلدان معينة تختلف تماما على المغرب في كل المستويات، ثقافة وسياسة واقتصادا ودينا واعتقادا، ويتعامل معها بمنطق استهلاكي محض، مما يوسع البون بين الخطاب التنموي المعقول والخطاب الذي يصرف في الواقع عبر آليات هشة وحكم على فشلها منذ الأساس.
لا أحد يختلف حول أهمية التخطيط التنموي في نجاح أي مشروع تنموي، بل ما يثار إزاءه التساؤل هو مدى استجابة تلك المخططات لحاجيات المجتمع، ومدى انسجامها مع الخصوصيات الهوياتية للدولة المغربية، لأن كل تنمية تذكي لهيب الفرقة والإقصاء والعصبية الثقافية فهي لا تعدو أن تكون وهما يسوق وزيفا يذاع.
يلاحظ في غالب الأحيان على أن المخطط التنموي الذي تحتضنه بطون الكتب يعد هدفا في ذاته ما دام بقي حبيس الأوراق، ففي دراسة سوسيولوجية ميدانية أجريناها على بعض الجماعات المحلية بعمالة تارودانت، تؤكد لنا هذا الشرخ الشاسع بين المخططات الجماعية للتنمية وواقع الجماعات المحلية، بل أحيانا تحصل مفارقة غريبة تفيد على أن ما يخصص للمخطط من ميزانية يفوق أحيانا ما يرصد للمشروع وأحيانا كثيرة لا شيء ينجز منه.
إن هذا التيه والارتجال والتملص من الإرادة الصادقة الذي يطبع الخطاب التنموي بالمغرب نتاج للمقاربة التجزيئية للدولة في التعاطي مع الشأن العام، ليصبح بذلك الخطاب السياسي هو الرداء الذي تتدثر به كل المخططات التنموية.
3- مقاربة تشاركية موجهة
من بين الأسس والركائز التي يقوم عليها كل مخطط تنموي ناجح هو المقاربة التشاركية إذ هي جسر يرأب الهوة القائمة بين الفاعلين في المجال التنموي، وتعد وسيلة لتحقيق تفاعل ناجع وخلاق يفرز تشخيصا واقعيا وواضحا، لمعرفة حاجيات الفئة المعنية بالتنمية، ومن ثمة بلورة حلول ومداخل حقيقية للرقي بمستواها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
إن كل مقاربة تشاركية لا يلزم أن تكون مقيدة وموجهة إذا ابتغينا من ورائها ثمارا ونتائج مرضية، لأن كل توجيه مسبق وقبلي من قبل كيان سياسي معين سيفرغها من حقيقتها لتصبح مجرد قالب فارغ ووسيلة صورية.
إن الخطاب التنموي في المغرب يجسد لنا هذا النوع من المقاربة التشاركية الموجهة في كل المستويات: السياسية، الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية، لأن الهيئات التي تضطلع بمهمة التخطيط التنموي لا تعمل في غالب الأحيان إلا بمنطق التوصيات الفوقية، وتتجسد في الواقع بإقصاء بعض الفاعلين السياسيين وتجاهل بعض العقول المثقفة، واللجوء بدلا عنها إلى أساليب تمويهية تطمس الحقائق، بالتمرير الإعلامي للمخطط -مثلا- وتقديمه في ترسانة مفاهيمية جاهزة يطبعها التجريد والتناقض.
ختاما يمكن الإشارة إلى أن الخطاب التنموي في المغرب ما زال يفتقد للوضوح والمصداقية في بنيته، لأنه ينسجم مع روح معكرة بالشوائب، وغير مؤطر بإرادة مجتمعية قوية، لذا فكل خطاب تنموي بناء قمين بمدى تأثيله على ركائز سياسية قوية تترجم الإرادة العامة للدولة.