المؤكد أن “الانتقال الديمقراطي” في نسخته الأولى بين النظام المغربي (ممثلا في الراحل الحسن الثاني) وحزب الوردة قد أفشل، وسرعان ما أقبر الحديث عنه حتى، وذلك بتعيين جطو على رأس الحكومة بصفر صوت في الانتخابات التشريعية التي لم يكن مرشحا لها أصلا. لم يعمر التفاؤل من قبل رفاق اليوسفي طويلا، فقد أريد لهذه الرهانات أن تكون بهذه الطريقة وعلى هذا المقاس، وبحجم خيبة الأمل في صفوف الرفاق، كان الانتشاء في صفوف النظام الرسمي، واستمر هذا الأخير في إضعاف “المعارضة التاريخية” بعد إحساسه بتجاوز عنق الزجاجة والإفلات من السكتة القلبية. وبكثير من الثقة في النفس، استعمل المخزن كوادر عدة ووسائط شتى لتثبيت مشاريعه، وقد كانت إلى أجل قريب عصية على التطبيع والتبعية.
انتهى الطموح وتبخر الحلم والأمل في تغيير يذكر، وأصبح المارد جزء من الخيار الرسمي. باسم الواقعية تم التعالي على الواقع لفائدة المصالح الشخصية والهامشية. فترات كئيبة مرت، زاد من كآبتها قتل السؤال حول مشروع الانتقال وأسباب عدم اكتماله.
لا النظام السياسي الرسمي يمكنه التنصل من المسؤولية عن الفشل، ولا الرفاق أنفسهم بريئون من الاتهام، لأن كليهما جند خلال ذلك الزمان خيرة ما عنده من الخطباء والكتاب لإقناع أمة مغلوبة على أمرها بالانتقال كفرصة وأمل، لكن الأمة التي سلب حقها في تقرير الانتقال لم تنل شرف الاعتذار حتى، بل يطلب إليها اليوم الأمل في انتقال من نسخة ثانية، منقحة ومزيدة على حد قول أطرافها.
الآن حيث يعاود النظام طرح الرهان، بأطر مغايرة وفي ظروف مختلفة، وجب الوقوف عند أسئلة كثيرة على سبيل الاستبيان:
من أجهض “الانتقال”، ولمصلحة من؟
بعيدا عن الاتهام، المؤكد أنه تم التوافق بين المصالح بين النظام والمعارضة المقلقة آنذاك، وقد كان كليهما قد أعياه الصراع واشتعلت فيه الرغبة الجامحة في التعايش، لكن كل منهما يعلم أن السياسة مناورات، والمحتوم أنه سيكون هناك خاسر ورابح، أو رابح أكبر ورابح أقل، وتم إعلان النوايا بالدخول في الانتقال.
مشكلتنا أننا لا نعطي المفاهيم حقها من التحليل والمساءلة، بل إن الساسة عندنا يزرعون الوهم ويسوقون المفاهيم الغامضة للاستهلاك الفكري والإعلامي للخلوة بالمناورات والمفاوضات. ما أعلن عنه رسميا -خلال تلك المرحلة- أن المغرب قد دخل مرحلة التناوب التوافقي في أفق الانتقال الديمقراطي، بمعنى أوضح، سيتنازل القصر عن بعض الصلاحيات لصالح الحكومة المنتخبة في أفق الاحتكام إلى الديمقراطية الكلية والمتمثلة في التزام القصر “الرمزية” ومباشرة الحكومة لعمليتي التقرير والتنفيذ.
للأسف لم تكن المرحلة رهان أمة، وكان الطرفان يتفاوضان بعيدا عن الشعب المغلوب على أمره، وفي حساب كل طرف أن سواد الأمة الأعظم إلى جانبه ويثق به، وعند انتهاء الرهان تبين أن الشعب عبارة عن كتلة صامتة سئمت السياسة بشكلها الحالي، وخضعت للأمر الواقع تحت كنف المخزن تنتظر شروط تغيير موازين القوى لصالحها وبإرادتها.
كان النظام السياسي واعيا بدقة المرحلة وخطورتها، وكان مستعدا لتقديم تنازلات ما دون المساس بجوهر النظام وآليات التحكم، لذلك عمد إلى تهديد الجميع بالسكتة القلبية التي لن تستثني أحدا في زعمه، وذلك رفعا منه لسقف النزال والمنافسة. الرفاق كذلك كانت لهم من الخبرة ما يؤهلهم لتحقيق إنجاز يذكر، لكن جشع بعض الطامعين وضعف تقديرات بعض القادة المتسرعين دفع الخصوم إلى الوصول قبل الموعد وتفويت الفرصة من غير استثمار لنقط القوة المتوفرة حينها، وهكذا دخل الرفاق النزال من غير حصانة تذكر.
ليس عيبا أن يخفق رجل السياسة، لأن السياسة تداول، ومن يهزم يمكن أن ينتصر. لكن العيب كل العيب، أن يتم التعتيم عن الحقائق والسكوت عن التجاوزات كشكل من أشكال اللعب بمستقبل أمة.
وحيث إن نفس الأسلوب والاقتراح يطرح الآن من غير تقييم لسابقه، فإن كل من ساهم ويساهم في لعبة مثل هذه، إنما يحمل الإدانة التاريخية المؤجلة إلى حين انتصاب العدالة في شروط مجتمعية مغايرة.
هل يمكن أن تتكرر المأساة
نعم من المرجح أن تتكرر المأساة، إذا اعتمد السياسيون نفس الأسلوب المبني على طلب الحكامة دون العمل على ممارسة الحكم، وإذا اعتمد الفاعلون الجدد على تحقيق التنمية وإغفال الثوابت الأساسية للمجتمع الديمقراطي من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية وحق التداول على السلطة. ولن يشفع لسياسيي المرحلة الحالية تمسكهم ودعوتهم إلى الأمل، لأن الأمل وحده لا يصنع ديمقراطية ولا يؤسس لانتقال ديمقراطي. بل ضمانة الانتقال تكمن في تحقيق الثوابت التالية:
1- السيادة للشعب يمارسها من خلال صناديق الاقتراع من غير وصاية، فلا يعقل أن تبقى وزارة الداخلية، بتاريخها الحافل بالتزوير وحاضرها الزاخر بالتحيز، ماسكة بزمام العملية الانتخابية وبكل تفاصيلها، من تقطيع وإشراف ورعاية وتحكيم وإعلان ومتابعة.
إن نسبة المشاركة في انتخابات 25 نونبر مؤشر واضح على أن مظاهر السكتة القلبية لا تزال تخيم على المجتمع السياسي المغربي، فالناس سئمت رؤية بعض الوجوه على منصات السياسة، وعافت خطابا هي في حقيقتها جزء من فكر ما قبل انطلاق الثورات. إن الرهان على الأرقام بأي شكل وأية طريقة يفقد العملية السياسة مصداقيتها ويجردها من خصائصها ويفرغها من روحها.
2- لا يجدي تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز، خصوصا إذا بقيت صلاحيات الحكم موزعة بين أشخاص ومؤسسات فوق القانون والمحاسبة، وأي انتقال نريد إذا بقيت صلاحيات التنفيذ في القضايا الكبرى للبلد (الشأن العسكري والديني والقضاء والاعتراض على التشريعات) بيد السلطة السياسية العليا تمارسها من خلال مؤسسات الوصاية والتبعية.
3- حصانة المسؤولية هي المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، ولا يمكن الانتقال إلى الديمقراطية في حدها الأدنى إذا بقي من يفترض فيه حماية الحرية يتمسك بنقيضها، وكيف السبيل إلى الانتقال في أجواء تبادل الاتهامات بين السياسيين بالاختلاس وإهدار المال العام. بل كيف السبيل إلى الانتقال وأحكام الإدانة الثابتة في الأشخاص والمؤسسات تنتظر طريقها إلى التنفيذ، كل هذا على مرأى ومسمع من الجميع.
4- حرية الرأي والتعبير المكفولة للأفراد وحق الجماعات الثابت في التجمع والتعبير وغيرها ركيزة الديمقراطية، فهل يصح تجريب الانتقال في نسخة ثانية لتحرير ضحايا الانتقال في نسخته الأولى. المئات من ضحايا الكلمة والرأي يقبعون في السجون المغربية، ومحاكم البلد لا تزال تفتح ملفات المتابعات السياسية دون نية إنهاء أو إغلاق محتمل. إنه لا يصح تحريم سياسة الحزب الوحيد بشكل دستوري، وتجسيد آليات الحزب الوحيد والرأي الوحيد بمتابعة المعارضين ومنعهم من أبسط الحقوق (التضييق في الأرزاق وفي مقرات العمل، التجسس الدائم على المجالس والمكالمات الهاتفية، التضييق على حرية التجول ومغادرة التراب الوطني……).
5- لا يكون الانتقال بالتقسيط، خصوصا في ظل المتغيرات العالمية الحالية. إنما الديمقراطية آلية نسق الحرية المتكامل، والتمسك بالخصوصية المغربية المزعومة يعني الضرب في ثوابت العمل الديمقراطي. ولا أحد يقول بالتمرد على مقومات القوة الخاصة، بل الانتقال يجب أن يروم تنفيذ معالم النظام المنفتح المبني على التداول واحترام الرأي والتفكير المخالف.
6- الديمقراطية قادرة على حماية نفسها، وعند الشعب تجد تجسيدها الحقيقي، فلا داعي لتنصيب الأشخاص أو المؤسسات للوصاية عليها أو التحكم فيها وتقطيعها على المقاس، وقد مضى وهم الديمقراطيات الخضراء والحمراء وديمقراطيات الأسماء والأشخاص.
لا مناص من طلب التغيير والانتقال، لكن ما كل من طلب الانتقال عرف حقيقته ومغزاه، ولا كل من جربه في ظل أنظمة شمولية مغلقة ذاقه.
نأمل أن نقرأ عن ذكريات انتقال مضى وفشل، ونرى معالم ومظاهر انتقال آخر من غير تكرار للتجربة الميئوس منها.