توطئة
قصيدةٌ أَعْقَبَتْ سَماعَ أُخرى مِن قِبَل شاعرٍ مطبوعٍ، فأَدْمَعَتِ العينُ هَتوناً، وحَلّ بالقلب خشوع، وجادَتْ قريحةُ عَيِيٍّ بأبياتٍ خَرَجَت ما بين الضُّلُوع. إن لم أكُن شاعِراً فقد يَشْعُر بي مَن له في حُبِّ النبيّ ضُلوع.
واحسرتي وافرحتي
الحُبُّ أَطْربَني وكَحَّل مُهجَتي ** بِخَيالِ مَن أحْبَبتُ طابَت ليلتي
لمّا سَمِعْتُ الجَمْع شَنّف مَسمعي ** بِاسْمِ الحَبيبِ أسال شوقي دَمْعَتي
فبَكيتُ لا حُزْناً على طول الجَفا ** بل مِن سَخاء الحِبّ كَفْكَفَ لَوْعَتي
قالَت دُموعي وهْيَ تِرْياق الجَوى: ** ذا مَولِدُ الهادي فَحَقِّقْ رَغْبَتي
حَدِّثْهُمُ عَمّن أضاء بِنورهِ ** كَوْناً تَلَأْلأ ناشِراً للرّحْمَة
في مَسقِطِ الرّأس الذي دانَتْ له ** هامُ المُلوك وطَأْطأت في ذِلَّة
لمّا ثَوى في طَيْبَةٍ جُثمانُه ** أضْحَت مَدينةُ أَحْمَدٍ في ظُلْمَة
بل أنكَر الصّحب الكِرام قلوبهم ** مات الذّي أحيى الورى بالسُّنّة
مَن كان قُرآنا يَسيرُ على الثَّرى ** بَدْراً مُنيرا مُشرِقا في طَيْبَة
مَن أعْتَق الميلادُ جارِيَةً أتَتْ ** حُطَماً، أَبا لَهَبٍ بأكْرم مِنّة
مِنْ صَفْوَةِ الأرحام آمِنَة التي ** شَرُفَت بِحَمْل المُصطفى في تِسعة
وَضَعَتْه مَختونا زكِيّا ساجِدا ** مُتبسّما مُستبْشِراً في يَقْظَة
ولدَتْهُ في شهرٍ ربيعٍ سالِما ** مِن كُلّ عيب كاملا في الخِلْقَة
كَفَلَ اليتيمَ العمُّ أعْقَبَ جَدَّه ** في ذي الكفالة مُمْعِناً في الخِدْمة
أمّا الرَّضّاع فللحليمة شأنهُ ** أَنْعِم بسَاقِيَة لأكْرَم نَبْتَة
عاش الطُّفولة والشّباب مُبَرّأً ** مِن كُلّ شِرْكٍ أو هوىً أو فِتْنَة
بل كان في القوم الأمينَ مُصَدَّقاً ** حِزْبُ الفُضولِ دليلُ رُشْدٍ مُلْفِتِ
لَمّا أتمّ الأربعين سعى به ** شَوْقُ المُوَلَّهِ للعُلا في خُلْوَةِ
حتّى أتاه الوحي يُقرئه الهُدى ** وأقامَتِ الآياتُ صَرْحَ البِعثَة
رُشدا على هام الزّمان بناؤه ** غِمْداً على نَصْلِ الحُسام المُصْلَتِ
رِفْقاً بِها مَوْروثةً مَوْؤودةً ** رِفْقا به عَبْداً أتى مِن قَيْنَة
عِلْماً يُنيرُ الدَّرْبَ تملؤه الصُّوى ** بمُبَشِّر ومُذكِّر ومُثَبِّت
فاعجب لأُمّيّ يُعَلِّمُ أُمّةً ** بَلَغَت ذُرى الإحسان في الخيرية
واعجب له طفلا يتيما راعيا ** يغدو أباً يرعى حقوق رعيّة
واعجَبْ لها صحراءُ قاحِلَةٌ جَنَتْ ** مِن مولد الهادي أَمانَ الكعبة
واعجَبْ لِرَمْلٍ في فَلاةٍ بَلْقَعاً ** صارَ الخَصيبَ ومَنْبِتاً للثَّرْوَة
نَفْطاً وتِبْراً والوُفودُ بِمَالِها ** وبِمَا لَها جاءَتْ لأعظَمِ رَحْبَة
سَفَرٌ، تَلِيهِ إقامةٌ ومَناسِكٌ ** هَدْيٌ، وكُلٌّ عائِدٌ بِهَدِيّة
وأَنينُهُ بَعْدَ انتِهاءِ مُقامِه ** وحَنينُهُ في حينِها للعَوْدَةِ
أُمّ القرى، أغلى الثّرى، مَهْوى الوَرى ** لزيارة أو حجّة أو عُمرة
واعجب لمن كان المُبَشِّرَ غازيا ** مِنْ نَصْرِ بَدْرٍ للفُتوح بمكّة
خَطَب الحبيب فما لِصدّيقٍ بكى ** مِن فَرط وَجْد أم لفحوى الخُطْبَة؟!
حان الوداع فكلّ خَطْبٍ هَيِّنٌ ** إلاّ عَمىً عن رُؤية في الغُرّة
إِلاَّ أَسَى صَمَمٍ عن الصّوت الذي ** يُحْيي ويُنعِش سامِعا في النّدوة
أين الحديثُ مُشافَهاً من ثغره ** والوحي يُنْبِئُ عنه زَيْنُ الطّلعة؟!
فهُنا مشى، وهُنا انْتَشى، وهُنا غَشا ** أسواقَنا وقُلوبَنا بالحِكْمَة
صلّى هُنا، وهُنا دعا، وهُنا سَعى ** للصّلح ما بين العِدا والإخوة
وهُنا بنى، وهُنا اقتنى، وهُنا اعْتَنى ** بالعبد أو بالشّيخ أو بالمرأة
وهُنا ارتقى، وهُنا استقى، وهُنا التقى ** وفداً أتى لتحالُفٍ أو بيعَة
وهنا حبا المحبوب أيام الصبا ** وهُنا حَبا كَعْباً بتلك البُردة
وهُنا دَعا يرجو المَتابَ لِمَن عَتى ** وهُنا دَعا شُكْراً لأهْلِ فُتُوَّة
وهُنا رَثَى مُستَغْفِراً مُستَرْحِماً ** وهُناك أَبَّنَ مَن قَضى في غَزْوَة
وهنا البقيع قبوره مجهولة ** يثوي بها أزكى الأُساة الصّفوة
قد كان للمبعوث بيت ها هنا ** هل صار مكتبة تؤجّج غيرتي؟!
وخديجة كانت لها سكنى هنا ** أُوّاه أين البيت هَدِّئ ثورتي؟!
وهنا أنا في شِقْوَة أشكو الوَنى ** لا مَن يُجير صَبابتي ومَحبّتي
فيُقِلُّني جوّا إلى خضرائه ** ويقلّني جوّا إليه بِوَصْلَة
مِن مادح مِن مُنْشد مِن مطرب ** في مَجْلِس أو مولد غَضّ فَتي
صلّوا على الماحي صلاة مودّع ** آثامَهُ يرجو الرُّجوع بتوبة
صلّوا على الهادي صلاة مُشَيِّع ** لجنازة الماضي بحاضِرِ مُخْبِتِ
صلّوا على آل النبي وصحْبِه ** ما حنّ مشتاق لتلك الرّوضة
وضع الجبينَ على البِساط مناجيا ** ربَّ الورى، مُتلذِّذا في نَشْوَة
يا ربّ صلّ على الحبيب وكن لنا ** يوم التّغابن يا لحزني فرحتي
إن لم أَرِدْ حَوْضَ الصَّفا واحسرتي! ** أو لم أرد نبع الشّفا واضيعتي!
أو لم أكن أَهْلاً لنيل رِضائه ** أو لم أَفُزْ فَضْلاً بأكْمَل نِعْمَة
بحُداءِ إخوان النبي وفَخْرِهم ** إن كنتُ مِن حَسَناته وافرحتي!
في ظِلِّ مَن لا ظِلّ إلاّ ظِلُّه ** يومَ القِيامَةِ واحِداً مِن سَبْعَة
جاراً لِطَهَ بين صفوة صحبه ** فَوْقَ الأَسِرَّة ناظِرا في نَضْرَة
فاس 15 ربيع النبوي 1441ه / الموافق لـ13 نونبر 2019م.