ودعنا سيدي محمد العلوي رحمه الله إلى رحمة الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، واستودعناه الله ورسوله وكل من كان يدعو لهم في دعاء الرابطة، وأجار الله أهله وأبناءه وبناته وإخوانه وأخواته وكل أحبابه وأجارنا في فقدانه.
أيادي سيدي محمد العلوي البيضاء علينا كثيرة، ولن تغني هذه الكلمات التي أخطها شيئا في محاولة لمكافأة جمائلة، فهي جمة وجميلة، ولن يحصيها ويجزي عنها خير الجزاء إلا المطلع على مكنوناتها وخفايا آثارها حق الاطلاع، وهو الله العليم البصير.
لكن واجب الوفاء والشهادة، اللذين كان فيهما الأوفى والأشهد، يقتضيان الإفصاح ولو عن قليل القليل.
لن أنسى ما حييت أول مرة اقترن تملي عيني بطلعة رجل مهيب النظرة بتقديمه لي من طرف سيدي عبد السلام قائلا: “هذا هو السي محمد العلوي السليماني”، وكان ذلك في حفل زفافي بالشريفة ندية سنة 1980 بالبيت الموجود بالداوديات بمراكش. وكم كان بليغا هذا التقديم المختزل للتعريف بسيدي محمد العلوي. لأن الاسم والطلعة البهية تنبئ عن قوة نور الرجل وعن عظمة موقفه.
إنه نور صحبة الرجل لسيدي عبد السلام في الرحلة الإيمانية منذ فترة الانتماء للطريقة البودشيشية القادرية، وإنه الموقف الجلل في ملحمة رسالة “الإسلام أو الطوفان”، وإنه الصمود الشامخ في اعتقال درب مولاي الشريف.
وقبل المرور إلى مشاهد أخرى ونحن نتكلم عن حفل الزفاف كانت هديته لنا: مصحف رائع أحمر، محفوظ في علبة خضراء، مرصع التجليد بخط مغربي مذهب، سبحان الله … كم تشبهه هديته. رجل قرآني مجاهد شريف، وسط أنوار الذكر والمناجاة، ومحلى بجمال الخلق الرفيع، وفيا لانتمائه الحق للدوحة النبوية الطاهرة. نعم، هذا هو سيدي محمد العلوي السليماني.
أكرم به من رجل، كانت هداياه كلها كذلك، العينية منها والمعنوية. كانت دائما من النوع الجيد الثمين أثناء زياراته لأسرة سيدي عبد السلام في المناسبات وغيرها ؛ هذا ما تحكيه الشريفة ندية.
وكنا كلما زرنا مدينة مراكش العزيزة إلا وحملنا سيدي عبد السلام سلامه ودعواته نبلغها لسيدي محمد العلوي وسيدي أحمد الملاخ. وكانت كل زيارة لهما بمثابة دورة تدريبية عملية في حسن الاستقبال والترحاب، بالوجه الباش والقلب المحب والصدر الرحب وكرم الضيافة والأدب الرفيع والرقة والسمو في كل حركة وسكينة. يستقبلك خارج البيت ويخدمك بنفسه داخله وييسر لك كل أسباب الراحة ويودعك مشيعا محملا بالهدايا.
هكذا كان سيدي محمد العلوي يربي بالنظرة الرحيمة واللمسة اللطيفة والحنو الصافي والابتسامة المبشرة واللباس الجميل والتغاضي الحكيم والصفح المحفز والدمعة الساقية والصوت المذكر والدعاء المخشع؛ كان يربي بالأبوة في أبهى صورها وأجلها.
كان سيدي محمد العلوي يقطن في المدرسة المسماة باسمه -“مدرسة العلوي”- من طرف سكان حي دوار العسكر وكان، سبحان الله، مدرسة.
أترك لكثير من إخواننا وأخواتنا الحديث عما نشترك فيه من فيوضات سيدي محمد العلوي أثناء زياراته لنا في مجالس الجماعة للنصيحة ومن رباطات ولقاءات وغيرها. أحكي فقط عن قطعة من الأرض التي سقاها فرع من فروع نهره الفياض.
في سنتي 1990 و1991 أكرمت بصحبة الأخيار الأسياد، أعضاء مجلس الإرشاد، في سجن سلا. وكانت فرصتي لصحبة أقرب لسيدي محمد العلوي بين جدران السجن والزنزانة. فهناك، هناك، في ذلك السفر الطويل تمتحن المعادن لكي تنبئ عن أصالتها وصفائها.
هناك خبرنا صبر شيخ أكبرنا سنا، مريض بشتى الأمراض، على قساوة برد مخافر الشرطة في مخفر سلا في شهر يناير1990 حيث البرد القارس والقوت القليل لمدة 12 يوما. وبعد انتقالنا للسجن، خلال فترة “الضيافة”، خبرناه حيث الضيق والقلة في كل شيء، خبرناه في عفته وفي إيثاره لشاب آنذاك مثلي، بغطاء أو بيضة أو كسرة خبز أو مكان مريح. وجدنا فيه الصبر والاستبشار واليقين والثبات. كان الرجل رحمه الله يشكو من الربو، وكانت الزنزانة تزيده ضيقا، وكان يشكو من البرد في الساقين، وكانت أرض الزنزانة تضاعف برده أضعافا، فيضطر لمضاعفة السراويل والجوارب؛ فكان صبره بالنسبة لصبري مضاعفا أضعافا كثيرة. وفي تلكم الظروف كان يظهر ضعفي ولا يظهر ضعفه، وتبرز شكواي ولا تسمع شكواه.
لله دره من رجل أعطى براهين الصدق بالتحلي بخصال المنهاج النبوي حقا.
كان أميرنا في السجن، وكان يأبى إلا أن يشاركنا في أعمال الخدمة، ونحن نرفض ذلك. ونقول له في سياق البسط “متى كان الأمراء العلويون يخدمون غيرهم؟” لكنه كان علويا حقا. كان سيدا وأميرا بخدمته وبكل أخلاقه. كنت أصغر الإخوان سنا وكذلك أصغرهم إيمانا وخلقا وعزما، لكنه مع ذلك كان بي رحيما و لنـزقيتي متحملا وغافرا.
لا أجد لسانا قادرا على شكر هذا الرجل ولا عبارة مستوفية لمكرماته، حسبي أنه الآن في ضيافة من لا تخفى عليه خافية. نسأل الرحمان الرحيم أن ينوب عنا في إكرامه كما هو أهله وأن يجعلنا أوفياء لعهوده وسائرين على دربه. رحمك الله يا سيدي ورضي عنك.
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه وسلم.