نقف في هذه المقالة مع آيات الوصايا العشر من سورة الأنعام المكية، من قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوكَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الصَّحِيفَةِ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الآيَاتِ: “قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ (الأنعام: 151) 1 ، بل إنها وصيةُ سائر الأنبياء لأمَمِهم. وقد ذكر الشوكاني في فتح القدير قوله: لم يزَلْ كل نبي يوصي بها أمَّتَه).
أما في قوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قال الطبري رحمه الله: ولا تقربوا الظاهر من الأشياء المحرمة عليكم، التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها، والباطن منها الذي تأتونه سرا في خفاء لا تجاهرون به، فإن كل ذلك حرام) 2 . ومن أكبر الفواحش السكوت الشيطاني عنها دون السعي إلى إنكارها، حتى تخرج من دائرة المنكر الذي يمارس عليه الإنكار، إلى حيز المعروف والمقبول بين الناس؛ يقول الأستاذ المرشد رحمه الله في رسالته الخالدة: وأن لا نقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإننا إن اقتربنا طوعا وميلا أو استقلنا بين يدي طاغوت التهجين الثقافي والتدمير الأخلاقي فقد وقعنا في حمأة الفواحش) 3 . فدل أن الاستقالة عن دفع المناكير والتوقف هو وقوع في عين الفاحشة، ومشاركة فعلية في ذيوعها وانتشارها. ومثال ذلك ما “أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها، قال: فقال: يا رب! إن فيهم عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين، قال: فقال: اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط” 4 .
إذن فواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس عملا ظرفيا، ولا يشوبه تحيز ولا محاباة، لكن مع مراعاة فقه الأولويات في تعيين المنكر، والحكمة في التغيير، والرحمة في الآمر، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “”إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض”، ثم قرأ: “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ” إلى قوله “فَاسِقُون” (المائدة: 78-81)، ثم قال: “كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصرا”” 5 .
فلا ينفع صلاح الأفراد إذا عم الجمع الفساد، كما جاء صريحا في حديث رسول الله عليه السلام من طريق عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ” أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: “لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ”. وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِى تَلِيهَا. قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ “نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ”” 6 . قال عليه السلام الصالحون ولم يقل المصلحون: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (هود: 117).
من تم يصير واجب الإصلاح نجاة للعامة والخاصة، والإعراض واللامبالاة خزي وعذاب دنوي لكليهما، قال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (الأنفال: 25).
وتصديق ذلك حديث السفينة، فعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضى الله عنهما عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَو أَنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا” 7 .
ورب قاعد مستدل بحديث “من رأى منكم المنكر.. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ” 8 ، حيث أَوّلَه بعض العلماء (بمقتضى زمانهم ومكانهم) على أنه تراتبية في التغيير من حكام إلى علماء ثم العامة، فنتج عن ذلك استقالة وتنازل الأمة من وظيفتها التي نالت بها الخيرية لصالح ديدان القراء والمنكر الأكبر، فركنت واكتفت بالتغيير القلبي كموقف سلبي، محاولة من خلاله التبرير وإبراء الذمة، إلا أن سياق الحديث يدل على غير ذلك، فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُوسَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ… وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ” 9 .
إن حياة الأفراد حياة للأمة، وكلٌّ مرابط على ثغر من ثغور الإسلام، فمن لم يسع إلى الإصلاح والبناء، فلا أقل من أن يمتنع عن الهدم والإغواء، روى الإمام أحمد في مسنده، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا الرُّومُ فَأُوهِمَ، فَقَالَ: “إِنَّهُ يُلَبَّسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ”.
كما أورد الإمام ابن كثير هذا الحديث ثم عقب عليه بقوله: وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَمَتْنٌ حَسَنٌ وَفِيهِ سِرٌّ عَجِيبٌ، وَنَبَأٌ غَرِيبٌ، وَهُو أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ تَأَثَّرَ بِنُقْصَانِ وُضُوءِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ) 10 .
[2] جامع البيان في تأويل القرآن، أبوجعفر الطبري، ج12 ص218.\
[3] وصية المرشد عبد السلام ياسين، http://www.yassine.net/ar/document/4834.shtml\
[4] شعب الإيمان، الإمام البيهقي، الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.\
[5] سنن أبي داود، بَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.\
[6] صحيح مسلم، بَابُ اقْتِرَابِ الْفِتَنِ وَفَتْحِ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ.\
[7] صحيح البخاري، باب هَلْ يُقْرَعُ فِي القِسْمَةِ وَالِاسْتِهَامِ فِيهِ.\
[8] صحيح مسلم، بَابُ بَيَانِ كَوْنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبَانِ.\
[9] صحيح مسلم، الباب نفسه.\
[10] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج 6، ص 329.\