وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (سورة الرعد آية 21).
نتلمس من سياق الآية القبلي والبعدي أوصاف أولي الألباب المتمثلين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل فئة مؤمنة من بعدهم، انبرت لنيل الإمامة في الدين والإصلاح، وذلك من خلال امتثالهم للأوامر والنواهي التعبدية والاجتماعية والسلوكية.
من تلكم الأوصاف الرائعة الصلةُ بعمومها وشموليتها دون تفصيل، فهو غير مقصود، بل المقصود الاستقامة المطلقة التي لا انحراف فيها ولا التواء.
والصلة صلات، صلة الفرد بربه صلاةً ودعاءً خوفًا ورجاءً، صومًا دومًا لا حومًا سومًا، وصلته بنبيه محبةً واقتداءً، وصلته بأمته تهممًا وجهادًا، وصلته بمجتمعه دعوةً وتعبئة، وصلته بإخوانه وقرابته الأحياء منهم والأموات محبةً وزيارةً، فلا تحبس الصلةَ برازخُ الموت، ثم صلته بنفسه مجاهدةً ومراقبة واستقامة.
وأوكد هذه الصلات صلة الأرحام، واجبة على الجملة وقطيعتها كبيرة، ولا يقيدها الشرع الحكيم بدين ولا بغير ذي محرم، لذا جاءت الأحاديث النبوية تترا ترغيبا فيها وترهيبا:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه” 1، وعنه صلى الله عليه وسلم “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله” 2 .
بل كان من عادة السلف الصالح أن يخرجوا قاطع الرحم من مجالس أدعيتهم مخافة أن يحول بينهم وبين استجابة الدعاء.
ثم إن صلة الرحم، التي عرفها العيني رحمه الله بقوله “تشريك ذَوي الْقرَابَات فِي الْخيرَات” 3، أدبٌ رفيعٌ من آداب السلوك، ولبنة أساس في بناء المجتمع الإنساني السَّوي أو بالأحرى العُمران الأَخوي، فإن “لفيفا من اللقطاء لا يسمى أمة، إذ لا جامع بين مخلوقات منفصمة الروابط. لهذا استحق اللعنة وحرمت عليه الجنة من استهان بحُرمة النسب، فطعن بذلك في ولاء القرابة، وتلصص على بر القرابة، وزوَّرَ صلات الأرحام” 4.
حقيقة صلة الرحم نستشفها من فقه تبويب البخاري رحمه الله في صحيحه، حيث أفرد بابًا بعنوان “ليس الواصل بالمكافئ” وأورد فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها” 5 وعند مسلم “قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ“، (الجهل هنا القبيح من القول) فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ (المل الرماد الحار أي كأنما تطعمهموه) وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ” 6.
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ** وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
لا تحسبوني غنيّاً عن مودّتكم ** إنّي إليكم وإن أيسرت مفتقر
إنْ يهجرُونا فطالَمَا وَصَلوا ** وإنْ يَغيبُوا فطالَمَا حَضَروا
فأفضل الصلة صلة الرحم الكاشح الحاسد المشاكس.
أما أشكالها فيلخصها القاضي عياض رحمه الله “الصلة درجات، بعضها فوق بعض، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها ولو بالسلام كما قال عليه الصلاة والسلام، وهذا بحكم القدرة على الصلة وحاجتها إليها، فمنها ما يتعين ويلزم، ومنها ما يستحب ويرغب فيه، وليس من لم يبلغ أقصى الصلة يسمى قاطعًا، ولا من قصر عما ينبغي له ويقدر عليه يسمى واصلاً” 7، ومرجعها بحسب حال الواصل والموصول، إما بالمال والخدمة والزيارة، أو بالسلام والنصح والعفو عن الزّلاّت وإقالةِ العثرات، وحسن الظن، وكذلك بتفادي ما يعكر صفو الود، ودفع ما يفكك الروابط الأسرية، ولعله المقصد الأسنى من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم “أن تنكح المرأة على عمتها، أو العمة على ابنة أخيها، أو المرأة على خالتها، أو الخالة على بنت أختها، لا تنكح الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى” 8.
وختمت الآية بقوله تعالى وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ، فأولو الألباب يخافون سوء حساب الحق سبحانه لهم مناقشةً واستيفاءً لكل الحقوق اتجاه ذوي رحمهم، فإنها حقوق تحمل إلى الدار الآخرة، و الله المستعان.
[2] صحيح مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَتَحْرِيمِ قَطِيعَتِهَا، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[3] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العينى، دار إحياء التراث العربي بيروت.
[4] تنوير المومنات، عبد السلام ياسين، ج2، ص92، مطبوعات الأفق، ط1، 1996.
[5] صحيح البخاري، كِتَابُ الأَدَبِ، باب ليس الواصل بالمكافئ، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.
[6] صحيح مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَتَحْرِيمِ قَطِيعَتِهَا.
[7] إكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، القَاضِى عِيَاض السبتي، تحقيق د يحْيَى إِسْمَاعِيل، ج8، ص 20، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع مصر، ط1، 1419 هـ – 1998 م.
[8] مسند الإمام أحمد بن حنبل، مُسْنَدُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ – 2001 م.