لن يكون أبدا من المحسنين من لم يكن أولا وأخيرا من العابدين، وسلوك الفرد إلى ربه وقربه منه رهين بعلاقته بأهله عامة، برا بوالديه وحسن تبعل لزوجه ورعاية وتربية لأبنائه، قال تعالى في سورة النساء المدنية: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (النساء: 19).
“المعروف” اسم لكل ما يعرف بالعقل والشرع، وهو اسم مفعول لكل ما يقع عليه الاستحسان من قبل الناس في زمان ومكان وبيئة معينة.
وفي الآية، الْمَعْرُوف إشارة إلى مَا تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَسْتَنْكِرُهُ، وَمَا يَلِيقُ من معاملة بِحَسَبِ طَبَقَتِهِمَا ونسبها فِي النَّاسِ وبحسب ما يرجع إليه العرف، من نفقة وكسوة، ومعاشرة، ومسكن، وغيره، وهذا ما ذهب إليه الفقهاء والمفسرون. يقول ابن كثير رحمه الله: أَيْ: طيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وحَسّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ) 1 ، قَالَ الزَّجَّاجُ رحمه الله: هُو النَّصَفَةُ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالُ فِي الْقَوْلِ).
وعاشروهن بالمعروف واجب شرعي، وأمر رباني ووصية إلهية للرجال بحسن المعاشرة والرفق والحلم، ليست منّة ولا تكرمًا ولا تفضلاً، بل تأدية للواجبات وغض للطرف عن المطالبة بالحقوق في كل وقت وحين، فليست المعاشرة بالمعروف أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها.
الأسرة وبناء الأمة
تعتبر الأسرة الطيبة شجرة مباركة، أكلها دائم ومتعد، لا تفصل برازخ الموت الصلة التي بينها، وهي اللبنة الأساس في بناء المجتمع السوي، عبق ريحها الرفق والحنان وأركانها المتوازية العدل والاحسان، يقول الأستاذ المرشد رحمه الله: يمسك قاعدة البناء في الأسرة المسلمة العدلُ. لكن العدلَ وحده بمثابة ميكانيك جاف تصطك أجزاؤه عند كل حركة إن لم تزيت الحدائد وتُلطّفْ. ملطف الحياة الزوجية الإحسان بعد العدل، الإحسان قبل العدل، الإحسان مع العدل) 2 .
فلا غرو أن تكون الأسرةُ دعامةُ المجتمع محلَّ نظر المتربصين، شياطين الإنس والجن، وعرضة لقصف منهجي رهيب لا يفتر آناء اليل وأطراف النهار، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن إبليس ينصب عرشه على الماء، ثم يبث سراياه في الناس. فأقربهم منه منـزلة أعظمهم فتنة. فيقول أحدهم: ما زلت به حتى زنى! فيقول: يتوب! فيقول الآخر: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين أهله (أي زوجته)! فيقول: نعم أنت! نعم أنت) 3 .
كلمات تدل على أنها حرب بلا هوادة، فـ”السرايا” هي الجنود التي لا تبعث إلا في الحروب، أما “الفتنة” فالفتنة أشد من القتل؛ يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: مُنية كل شيطان من شياطين الإنس والجن أن تنكسر الأسرة، ويضيع الأولاد ويتمزقوا. الآن يحصل هذا الضياع وهذا التمزق من جهتين: من جهة تفكك الأسرة الآخذ في التفشي، ومن جهة هيمان هذه الأعداد الغثائية من الأطفال والشباب بلا مرب ولا مراقب) 4 .
تدبير وتخطيط بأبعاد استراتيجية للتفريق بين الزوجين وبين قلبي الزوجين وإن كانا تحت سقف واحد، أهم مرمى يهدف إليه شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان، مما يستوجب الاحتراس واليقظة وأخذ العُدة لدفع الغارات، فهو جهاد دفع وبناء، فــالاستقرار في البيت، وحسن التعامل فيه، من أهم ما ينبغي أن يميز المؤمنين. وإنه لجهاد يقتضي رحمة وحكمة، لاسيما في فترة الانتقال من مجتمع الفتنة إلى المجتمع الإسلامي. للناس عادات ومشارب، والبيت مَغْزُوٌّ بأدوات الإعلام الفتنوية، ولأهل كل بيت فتن. فعلى المؤمنة والمؤمن ألا يعنفا على أهل بيتهما بما ينفر. الجهاد في البيت جهاد دعوة وصبر ومصابرة) 5 ، لاحظ لفظ الجهاد 3 مرات.
معاول هدم العشرة الزوجية
الفهم الخاطئ لنصوص الدين وإخراجها من سياقاتها الشرعية، من أكثر ما يهدد صفو العش الزوجي الساكن، كوصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين، والحديث فسره وعلله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يُشم فيه رائحة تنقيص للمرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: “ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب من إحداكن”، ثم فسر نقصان العقل والدين بقوله: “أليس شهادتها نصف شهادة الرجل، وإذا حاضت لم تصل ولم تصم؟”. أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم رحمه الله.
أو وصفهن بالضلع الأعوج، كيف والله خلق الخلق في أحسن تقويم، وبالرجوع إلى الحديث يتضح المعنى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ” 6 .
يعلق الإمام الشعراوي رحمه الله فيقول: حين تتأمل الضلوع في قفصك الصدري تجد أنها لا تؤدي مهمتها في حماية القلب والرئتين إلا بهذه الهيئة المعْوَجة التي تحنو على أهم عضوين في جسمك، فكأن هذا الاعوجاج رأفة وحُنُو وحماية، وهكذا مهمة المرأة في الحياة، ألاَ تراها في أثناء الحمل مثلاً تترفق بحملها وتحافظ عليه، وتحميه حتى إذا وضعتْه كانت أشدَّ رفقاً، وأكثر حناناً عليه؟) 7 .
ومنه قول العامة (إن كيدهن عظيم) إشارة إلى قول الله: إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (يوسف: 28)، وقولهم أنه يفوق كيد الشيطان إيماء لقول الحق: إن كيد الشيطان كان ضعيفا (النساء: 76)، لكن المتأمل في الآيتين يعلم أن القائلين مختلفين، فالأول قائله بشر (إما “عزيز مصر” أو “الشاهد” لاختلاف المفسرين)، والآية الثانية حق، فالله هو العالم بخلقه، وكيد الشيطان يبقى ضعيفا إن لم يجد من أنفسنا الحليف.
أما آية الضرب وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (النساء: 34)، فتتعدى الفهم الخاطئ إلى الممارسات الشنيعة، ولقد فصل العلماء سياق الآية وبينوا أنها حالة شاذة وليس أصلا، والسنة المطهرة مبينة قولا وفعلا، حيث قال عليه الصلاة السلام: “لا تضربوا إماء الله” ثم قال عليه السلام “وليس أولئك بخياركم” 8 ، و“مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً قَطُّ” 9 فالخيرية كل الخيرية في الاتباع.
أضف إلى ذلك شيوع أحاديث واهية اشتهرت على ألسن العامة، ثم البناء عليها في تقييم الأزواج بأحكام مسبقة جاهزة، ومن ذلك حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث: “شاوروهن وخالفوهن”، وهو حديث لا أصل له، وحديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة الزهراء: “أي شيء أصلح للمرأة؟” فقالت: ألا ترى رجلا ولا يراها رجل! فقبلها ثم قال: “ذرية بعضها من بعض”! وهو حديث لا يساوي المداد الذي كتب به كما أورد الدكتور القرضاوي في تقديمه لكتاب تحرير المرأة للأستاذ عبد الحليم أبو شقة.
ومن المعاول المباشرة فشو فاحشة الزنا، وهيجان الشهوة، وفساد النية، وظلم من لا ناصر لهم إلا الله ومن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللَّهَ اللَّهَ فِي النِّسَاءِ” 10 ، “اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمُ” 11 ، فالظلم ظلمات يوم القيامة.
دعائم بناء الحياة الزوجية
أول هذا العوامل فقه الإحصان أو ما صار يعرف بالثقافة الجنسية، فنجاح العلاقات الحميمية له أثر نفسي على الزوجين، والعمدة في ذلك استشارة الحبيب اللبيب أو اقتناء كتاب مما يضعه الأطباء والعلماء في الموضوع.
“قولوا للناس حسنا”، “ابتسامتك في وجه أخيك صدقة”، “من المعروف أن تضع اللقمة في فمها”… أخلاق نبوية نقرأها ولا نطبقها إلا في الأباعد، أما الصاحب بالجنب – وهي الزوجة عند بعض المفسرين – فتحجب عنها ولا يصلها فيئه.
نظرة الود والكلمة الحانية.
التزين بين الطرفين.
حسن الاستماع.
إكرام ذوي الرحم للطرفين.
خلق الاعتذار.
الشورى الأسرية.
نعم الزوج السند عند الحاجة فالدنيا دار بلاء وابتلاء.
الهدية وسحرها (بسبب وبدون سبب) من أدب “تهادوا تحابوا”.
التسامح وغض الطرف والمداراة هما شعار الزواج الناجح، فتدبر قوله تعاله عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ 12 .
كلها أخلاق سامية تنتظر من ينزلها من المعرفة إلى السلوك، ومن العلم إلى الممارسة، ومن النظري إلى التطبيقي اليومي، وإنها لعقبة وجهاد وتربية بل هي مشروع حياة، ويبقى جواب الكيف هو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، بيت ناجح حقا وله كل مواصفات الكمال إلا أنه بيت بشري وليس بيتا ملائكيا، يكتنفه ما تكتنفه جميع البيوت من الهموم اليومية، وقد سطرت السيرة النبوية مواقف خالدة لنعتبر، فهذه “أمكم غارت” وأخريات يسألن التوسعة في النفقة وصحابيات يراجعن الكلام وخادمات يبطئن، واقعية لا مثالية، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
[2] تنوير المومنات، عبد السلام ياسين، ج1، ص: 218، مطبوعات الأفق، ط1، 1996.\
[3] صحيح الإمام مسلم، بَابُ تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا.\
[4] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص275، إيديتور، ط 1، 2005.\
[5] المنهاج النبوي، عبد السلام ياسين، ص 142، الشركة العربية للنشر والتوزيع، ط 1، 1989.\
[6] صحيح الإمام البخاري، بَابُ خَلْقِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذُرِّيَّتِهِ.\
[7] تفسير الشعراوي (الخواطر)، محمد متولي الشعراوي، ج19، مطابع أخبار اليوم، 1997 م.\
[8] سنن أبوداود، بَابٌ فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ.\
[9] سنن أبو داود، بَابٌ فِي التَّجَاوُزِ فِي الْأَمْرِ.\
[10] المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، بَابُ وُجُوبِ النِّكَاحِ وَفَضْلِهِ.\
[11] شعب الإيمان، أبوبكر البيهقي، باب الأمانات و ما يجب من أدائها إلى أهلها.\
[12] التحريم آية 3.\