لماذا الحديث عن الصحبة؟
يقول الأستاذ المرشد رحمه الله تعالى: “يتصور بعض الناس أن دولة الإسلام يمكن أن تقوم بمجرد انتشار الفكر الإسلامي والالتزام بالصلاة والأمر والنهي ثم الجهاد. ما نتحدث عن الرحمة والسكينة ومعاني القلب وعن الكمال الروحي كما عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا لنؤكد أن تلك الأحوال الشريفة هي اللب وهي العماد” [رجال القومة والإصلاح، ص 96].
أولا: مفهوم الصحبة
لغة: ورد في المصباح المنير: صاحب وصحبة، الأصل في هذا الاطلاق لمن حصل له رؤية ومجالسة. وجاء في القاموس المحيط الصحبة بمعنى العشرة والرؤية والمجالسة طالت أو قصرت.
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: الصاد والحاء والباء أصل واحد يدلُّ على مقارنة شيء ومقاربته، من ذلك الصاحب والجمع الصحب، أصحب فلان إذا انقاد، وأصحب الرجل إذا بلغ ابنه، وكل شيء لازم شيئاً فقد استصحبه.
اصطلاحا: يرى الشيخ عبد القادر الجيلاني أن الصحبة تهذيب ونصح: “لا بد لك من شيخ حكم عامل بحكم الله عز وجل يهذبك ويعلمك وينصحك” [الفتح الرباني، ص 105].
ويشرحها الأستاذ المرشد بقوله: “ليست الصحبة تطبيقا مجردا لنصوص وامتثالا جافا عسكريا للأوامر إنما هي محبة تثبت وترسخ وتنمو وتتجذر في القلب” [الإحسان، 1 /101].
ثانيا: تأصيل الصحبة
قال الله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح، 29)، يقول المرشد: “أتبع الله عز وجل في الآية بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بذكر المعية له، وهي أولى صفات المؤمنين في ذلك الزمان وفي هذا وفي سائر الأزمنة” [المنهاج النبوي، ص 122].
من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصحابة معاني الإيمان، ومن قلبه الطاهر سرت مادة الإيمان إلى من صحبه، ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت رحمة بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم بالإيمان، يقول المرشد رحمه الله: “صحبة الصحابة لرسول الله ﷺ رفعتهم، حاله استَفَّهُم ونوَّرهم قبل مقاله…. في أحضان النبوة تربوا، ومنها رشفوا واسْتَقَوا حتى تفجرت في قلوبهم ينابيع الإيمان وكانوا أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما. بالحب تربى الصحابة لا بالخضوع لسلطة حاكمة” [الإحسان، 1 /103]. هل نقل الصحابة الكرام علم التزكية ومعاني ترقيق القلوب إلى من بعدهم؟ وهل استمر هذا الاقتباس القلبي؟ هل هي سلسلة من أصحاب، والمصاحبة انقطعت؟ أم الأمر ما يزال مستمرا من قلب لقلوب؟ وهل جاءنا الدين من الأوراق والكتب أم من قنوات القلوب المؤمنة؟
1- قال الله تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه (الكهف، 28) قال المرشد رحمه الله: “كذلك فعل صلى الله عليه وسلم، لا ليكتسب من رفقتهم وخلتهم إيمانا. كيف وهو نجي الرحمان … لكن أوصاه لتسمع فلانة وتتفقه وتطمئن إلى أن صحبة جماعة حية بحياة الحب في الله شرط من شرائط السير إلى الله والقرب من الله” [تنوير المؤمنات، 2 /39].
2- قال الله تعالى: ولكل قوم هاد.
3- قال الله تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني. يقول المرشد رحمه الله: “وكل تاريخ الإيمان يشهد بأن قلب الداعي إلى الله على بصيرة نبيا كان أو وليا هو النبع الروحي الذي اغترفت منه أجيال الصالحين بالصحبة والملازمة والمحبة والتلمذة والمخاللة” [المنهاج النبوي، ص 124].
4- قال تعالى: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا [الإسراء، 17] . يقول المرشد رحمه الله في الآية: “لا تغلب الأنانية إلا بهداية ولا هداية إلا من الله فمن لم يكن له ولي مرشد فهو عرضة للضلال”.
5- روى أبو داوود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله فل ينظر أحدكم من يخالل”. قال المرشد رحمه الله: “أوصى حبيب الله أحدنا وإحدانا بالبحث والنظر عن خلة في الله وبيئة تربوية ممهدة إلى الله. ما أوصى بأن يزيد أحدنا كتبا إلى مكتبته، لأن القلوب إنما تقتبس من القلوب. اقرئي ما شئت، واسمعي ما شئت من محاضرات تنير العقل وتشرح وتصف. لكن من أين لنا بلمسة علوية تسري إلى مجامع القلب؟” [تنوير المؤمنات، 2 /38- 39].
6- روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام (جماعة) من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: نعم، فيفتح لهم). وفي رواية: (هل فيكم من رأى من رأى) يقول الإمام المرشد رحمه الله: “المقصود دائما هذه الصحبة المباركة المتسلسلة بالتلمذة والمجالسة والتزاور والتحاب في الله. والله يحب الصادقين…” [تنوير المؤمنات، 2 /24].
ثالثا: علاقة الصحبة بالجماعة
أ- الصحبة والجماعة
هما مطلبان متلازمان لا يفترقان، حتى تقترن إرادتنا لطلب وجه الله والآخرة بالإرادة الجهادية القائمة أسبابها على العمل الدنيوي. قال الأستاذ المرشد رحمه الله: “الصحبة تربي الفرد من أنانيته وتفتح له قابليات الاندماج في الجماعة… لهذا جعلنا الخصلة الأولى ذات طرفين لنلح على معنى وجوب أن تفضي الصحبة والتربية إلى بناء الجماعة. المؤمن الفردي قد يكون له ذكر وصدق وبذل وما إلى ذلك من الخصال التسع، لكن جهاده لا يعدو الجهاد الباطني في حلقة مصغرة من المريدين أو بين جدران الخلوة في أعلى الجبل، وذلك جهاد مع أوهام النفس وأحلامها. لكنه ليس الجهاد الأكبر الذي رجع إليه رسول الله لما عاد من إحدى غزواته، الجهاد الأكبر: جهاد النفس وسط الجماعة ومعها لهدف بنائها والصبر معها والتواصي والرحمة” [الإسلام غدا، ص: 47].
الغاية جمع ما تفرق وتشتت من معارف وعلوم كانت مجتمعة في عصر التنزيل ثم تفرقت مع الانكسار التاريخي و بعده.
لكن هل لاقتران الصحبة بالجماعة أصل وسند؟
– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” رواه الشيخان عن النعمان بن بشير.
– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تومنوا، ولا تومنوا حتى تحابوا. أو لا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” رواه مسلم عن أبي هريرة.
يعلق الأستاذ المرشد رحمه الله قائلا: “إفشاء السلام سبب ظاهر إذا اقترن بالأسباب الأخرى، فاجتمعت القلوب على طاعة الله والوفاء بالعهود والتحزب لله ونصرة دين الله واتباع سنة رسول الله حصل المقصود، فتراص الصف كالبنيان واستقرت أعضاء الجسد الواحد وتضامنت وتعاونت. فثبت خير الدنيا بحياة الإيمان الجماعي وثبت خير الآخرة بإيمان التحاب في الله. وهنا نضع الأصبع على مفصل بل موصل من أهم مواصل بناء الجماعة بل أهمها إطلاقا: ألا وهو التواصل القلبي. الصحبة في الله المؤدية إلى جماعة في الله هي مبدأ الحركة ووسطها ومعادها” [الإحسان، 1 /189].
– وعن الصحابة رضوان الله عليهم: يقول المرشد رحمه الله: “كان الصحابة رضي الله عنهم في جهاد الذلة على المؤمنين والشدة على الكافرين والإنابة لرب العالمين. وانحسر السادة الأماجد النورانيون من بعدهم عن الميدان الجهادي، جلهم لا كلهم، فكانوا أحلاس بيوتهم، فرغوا من الشأن العام ليتفرغوا لشأن التربية الخاص” [الإحسان، 1/ 199-200] إذن أسمى المطالب هو ارتباط الفقه المغيب “علم الآخرة” بالجهاد، إنه ارتباط العدل بالإحسان.
ب- الصحبة في الجماعة
سر الصحبة سيظل في الجماعة وداخلها إن شاء الله تعالى كما كان على عهد جماعة المسلمين في عهد التنزيل، روى البخاري عن المسور بن مخرمة قال: (لما طُعن عمر – رضي الله عنه – جعل یألم، فقال له ابن عباس – رضي الله عنھما – : یا أمیر المؤمنین لقد صحبت رسول الله – صلى الله علیه وسلم – فأحسنت صحبته، ثم فارقته وھو عنك راض، ثم صحبت أبا بكٍر – رضي الله عنه – فأحسنت صحبته، ثم فارقته وھو عنك راض، ثم صحبت صحبتھم، فأحسنت صحبتھم، ولئن فارقتھم لتفارقنھم وھم عنك راضون، قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله – صلى الله علیه وسلم – فإنما ذاك منٌّ من الله تعالى من به عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكٍر – رضي الله عنه – ورضاه، فإنما ذاكَ منٌّ مِنَ الله جل ذكره منَّ به علَيَّ، وأما ما ترى من جزعي، فھو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن ليِ طِلاعَ الأرض ذھباً، لافتدیت به من عذاب الله – عز وجل – قبل أن أراه).
رابعا: مميزات الصحبة في مشروع الأستاذ عبد السلام ياسين
التأصيل على مستوى المفهوم
يقول المرشد رحمه الله: “لست أدعو إلى التصوف. ولا أحب الاسم والشكل لأني لا أجدهما في كتاب الله وسنة رسوله بعد أن اخترت جوار القرآن والجلوس عند منبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. لا ولا حاجة لي بالمصطلحات المحدثة فلي غنى عنها بلغة القرآن وبيان إمام أهل الإحسان” [الإحسان، 1 /23].
فيسمي هذا النوع من الفقه بعلم التزكية أو الإحسان.
التأصيل على مستوى الأسس
يقول المرشد رحمه الله: “للتربية أصول وقواعد من كتاب الله وسنة رسوله. حفظها وحافظ عليها القوم رضي الله عنهم، واجتهدوا واجتهادهم فرع. ونحن، وإن استدللنا في طفولتنا بالفرع على وجود الأصل واقتبسنا والتمسنا نورا من الفروع، لا نبتغي بالأصل بدلا” [الإحسان 1/ 24-25]، ويقول رحمه الله أيضا: “شرف علمهم – أي الصوفية – لاعتمادهم على الشريعة، بدون هذا الاعتماد يصبح الحديث عن القلب ومعانيه هوسا، علوم الحقيقة نتائج لعلوم الشريعة وتطبيقها، وإلا فهو الجهل والخبط” [الإحسان، 1 / 34].
التجديد من خلال استحضار النموذج الصحابي الجامع للوراثة النبوية الروحية والجهادية؛ يقول المرشد رحمه الله: “نحن همنا أن ندرج التربية الإحسانية في سياق جِهادي لكيلا تكون مَخْرَقَة” [الإحسان، 1 /141].
فهي صحبة سلوك وعمل لا صحبة تبرك وانغلاق. ويقول رحمه الله أيضا: “في حاضر الأمة ومستقبلها لن نلتفت إن شاء الله إلى ما تحت الصحابة رضي الله عنهم الذين جمعوا أطراف الإحسان وأقطار المجد الدنيوي والأخروي من كل جانب. كانت فاعليتهم في ميادين الجهاد ضمان بقاء الدين واستمراره حتى اغترف الصوفية من ينبوع كان للصحابة رضي الله عنهم فضل تلقيه وصيانته والذود عنه والجلاد من دونه بالمال والسيف، وفضل نشره وتبليغ دعوته، وفضل قتال الكفر حتى باد الكفر، وفضل نصرة الحق حتى ظهر الحق… يوتي الله عز وجل فضله من يشاء كما يشاء. وقد آتى سادتنا الصوفية خيرا كثيرا. لكن أساليب العزلة وتربية الصمت والمجاهدة المنفردة في زماننا نكوص وبيت المقدس محتل، والأمة نهب مقسم، وجودها المعنوي مهدد، ورسالتها منكرة في عقر دارها.. مطلب شريف ومطمح منيف أن تحدث نفسك بأن تلحق بالصالحين وتكون من أولياء الله. ثم أن تصارع نوازع النفس والهوى ونزغات الشيطان وتتجرد للعمل وتشمر وتهجر كل ما سوى الله عز وجل. تلك طريق سلكها ذوو الهمم الرفيعة من الرجال أمثال أبي حامد، تعطرت بأنفاسهم الأزمان. لم يكن الدين غريبا في أزمنتهم، بل كانوا ساكنين تحت مطارق الأقدار الإلهية التي حكمت بأن يعيش المسلمون في ظل ملك عاض وجبري إلى أن يرفع الله جل جلاله تلك الحوبة التاريخية. الآن عاد الدين غريبا كما بدأ، فطوبى لغرباء أزمنتنا إن شمروا للالتحاق بركب الأخيار على متن الجادة الجهادية التي سلكها الصحابة في غربة الإسلام الأولى، حتى نصروا الدين وأقاموا للإسلام دولة وصرحا شامخا. تلك الجادة أوسع وأبعد منالا وأوفر نورانية لأنها جمعت بين الجهاد لتحقيق مطالب الأمة وبين المجاهدة لتحقيق المطلب الإحساني الفردي”. [الإحسان، 1/ 54-55].