يستنكر العدو الإسرائيلي ما قام به الشهيد المقدسي مصباح أبو صبيح، ويستغرب إقدامه على الانتقام منهم، والثأر لنفسه وشعبه مما يفعلونه بهم ويرتكبونه في حقهم، وهم الذين اعتقلوه وعذبوه، وحبسوه ومنعوه، وأبعدوه عن مدينته المقدسة، وحرموه من الصلاة في مسجدها الأقصى، وبالغوا في الإساءة إليه والتضييق عليه، وكرروا في حقه جرائمهم مراراً، ولم يبالوا بصمته ولم يحترموا حقه، وهو الفلسطيني ابن مدينة القدس، وصاحب الحق في الإقامة والتجوال فيها، وفي الصلاة والاعتكاف والرباط في مسجدها، وقد عرفه أبناء القدس لمدينتهم مخلصاً ولهم وفياً ومحباً، وعن مسجدها الأقصى مدافعاً، وعلى نسائها المرابطات والمصليات غيوراً، فمن أجلهن كان يثور ويغضب، إذا رأى جنود العدو ينتهكون حرماتهن بدفعهن أو ضربهن، أو بركلهن وشتمهن، وقد رأى ذلك مراراً فأحزنه وأغضبه، وحركت أفعالهم الدنيئة في نفسه معاني الحمية والشهامة، فكانت عمليته البطولية انتقاماً للقدس ولهن، وللأقصى والمرابطين فيه، والمحرومين من دخوله أو الصلاة فيه.
عرفه المقادسة بأنه أسد الأقصى، وأطلقوا عليه هذا الاسم ليقينهم منه وثقتهم فيه، وإعجابهم بمواقفه، واستحسانهم لخطابه، وإحساسهم بأنه “أبو عز الدين بحق” إذ يسعى لعزة ورفعة هذا الدين وأهله، وأدرك العدو وشرطته في مدينة القدس أيضاً أنه أسدٌ هصورٌ بحقٍ، وليثٌ غضنفرٌ لا يرد، وأنه هزبرٌ لا يخاف، ومقدامٌ لا يتردد ولا يتقهقر، فاستدعته أجهزته الأمنية مراراً، وألزمته بمغادرة المسجد الأقصى وعدم الدخول إليه أو الصلاة فيه، ثم أجبروه على الابتعاد عن محيطه وعدم الاقتراب من أسواره، وزادوا في قراراتهم عندما أبعدوه عن القدس الشرقية، وحالوا بينه وبين الإقامة في بيته وهو ابن بلدة سلوان المقدسية، وأخيراً أصدروا في حقه قراراً بالاعتقال الإداري لأربعة أشهرٍ، وانتظروه ليسلم نفسه لتنفذ الحكم، فعاجلهم بقراره، الذي رأوا وسمعوا فكان مدوياً ومزلزلاً، فقتل من نخبتهم وأصابهم في هيبتهم.
كان الشهيد أبو عز الدين يعلم أن العدو لن يكتفي بقتله، بل سيلاحق أهله وسيعتقلهم، وسيضيق عليهم وسيعاقبهم، وسيهدم بيتهم أو يصادر بطاقاتهم الشخصية ويطردهم من القدس، وهو ما كان بالفعل بعد قليلٍ من عمليته البطولية، إذ داهمت قوات من جيش الاحتلال بيته في بلدة سلوان واعتقلت نجليه، ثم استدعت والده للتحقيق معه، ولكنها اعتقلته إلى جانب ولديه، ومن المؤكد أن إجراءاتهم العقابية والانتقامية لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستتواصل وستزداد، وهو ما يعرفه الفلسطينيون جميعاً، الذين خبروا العدو وعرفوا طباعه، وتمرسوا على سياسته الظالمة وإجراءاته التعسفية الجائرة، دون أن توهن هذه السياسات من عزمهم، أو تمنعهم من مواصلة مقاومتهم.
إن العملية العسكرية الفدائية التي نفذها الشهيد أبو صبيح باسمه وشعبه، ونيابةً عن أهله وأمته، إنما هي نتاج السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين عموماً وتجاه القدس وسكانها على وجه الخصوص، وعليه أن يتوقع أمثالها وما هو أخطر منها وأشد، إذ ماذا كان ينتظر العدو الإسرائيلي من شعبٍ يضطهده ويظلمه، ويصادر أرضه ويهدم بيته، ويعتقل رجاله ويقتل شبابه، ويحرمهم من الصلاة في مسجدهم الأقصى في الوقت الذي يخطط فيه لهدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه، فيغلق بواباته في وجوههم ويفتحها لغلاة المستوطنين وغيرهم من أعضاء الحكومة والكنيست المتشددين والمتطرفين، الذين لا يتورعون عن مهاجمة الفلسطينيين والإساءة إليهم، وتهديدهم في أعز ما يملكون وأعظم ما يقدسون، وهو إذ يمنع أصحاب الحق من الدخول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه، فإنه يسمح للوافدين اليهود من خارج فلسطين بزيارة المسجد الأقصى والسياحة فيه، وإقامة طقوسهم الدينية وإجراء عقودهم وتنظيم ختانهم في باحاته.
ينبغي على قادة الكيان الصهيوني ومستوطنيه وغلاته وشيعته الأقربين من الغرب الداعم والمؤيد له والمنحاز لسياسته والمدافع عنها، وبعض القيادة العربية الضالة المنحرفة، المتحالفة معه ضد إرادة شعوبهم وأمتهم العربية والإسلامية، أن يعوا أنهم لا يواجهون شعباً مخصياً، ولا أمةً مسلوبة الإرادة، ولا يعتدون على حقوق رجلٍ ضعيفٍ أو مشلولٍ يعجز عن الحركة والرد، ولا يقوى على الانتقام والثأر، بل إن هذا الشعب حرٌ أبي، وعزيزٌ كريمٌ، لا يقبل بالظلم، ولا يسكت على الحيف، ولا تخيفه التهديدات، ولا تمنعه الإجراءات، ولا يقر بالأمر الواقع مهما بلغت قوة العدو وتعاظمت غطرسته.
لن يكون أبو صبيح آخر من ينتفض أو يثور، أو يغضب ويثأر وينتقم، ولن يعدم الشعب الفلسطيني أمثاله من المقاومين، ما دام العدو في سياسته ماضيا، وعلى إجراءاته الظالمة محافظا، وبأهدافه متمسكا، فإن عليه أن ينتظر المزيد وأن يتوقع الأكثر والأخطر، فهو لا يخفي سياسته، ولا يتردد عن الإعلان عن مخططاته، ولا يبذل جهداً لمنع المتطرفين اليهود من الاعتداء على الفلسطينيين، بل إنه يساعدهم ويساندهم، ويؤيدهم ويقف إلى جانبهم، ويسير الدوريات العسكرية لحمايتهم، ويعتقل كل من يعترضهم أو يحاول منعهم.
على الكيان الصهيوني أن يعلم يقيناً أن هذا الشعب أبداً لن يستكين، ولن يطأطئ الرأس ولن يلين، وأنه سيرد عليهم كل وقتٍ وحين، ما أتيحت له الفرصة، وما تمكن رجاله ونساؤه، وشبابه وصبيانه، وبما يتوفر لديهم من سلاحٍ وأداةٍ، ولو كان قبضة يدٍ أو ركلة رجلٍ، وأنه لن يستسلم لإرداته، ولن يخضع لمخططاته، ولن توهن من عزيمته اعتداءاته، ولن يشعر بالضعف والخذلان من خيانة بعض الأنظمة العربية وانحيازها له، فهذا شعبٌ على الله سبحانه وتعالى قد توكل، وعنده عز وجل قد أودع الأمانة، فلن يخشَ موتاً ولن يشكو من رهقٍ أو تعبٍ، بل سيمضي كرأس رمحٍ نيابةً عن الأمة كلها، محتسباً أجره على الله، فلا ينتظر من غيره سبحانه أجراً أو فضلاً، وهو الذي وعدهم بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار، رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه.