محبة الله تعالى في قلوب عباده هي المقام الأسمى من العبادات، إلى نيلها فليعمل العاملون وليشمر الصادقون الجادون في طلب ما عند الله عز وجل وليتنافس المتنافسون، وبروح نسيمها فليتروح العابدون. وهي الروح والريحان، وهي حلاوة الإيمان التي من حرمها فهو من زمرة العميان وجملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو تائه في بحار الظلمات.
محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم العروة الوثقى
محبة الله تعالى هي الغاية القصوى من المقامات، وبها تميز عباد الله المؤمنون، حتى قال الله تعالى عنهم: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ [البقرة، 165]. روى الشيخان وغيرهما عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار”. إنه حب يورث القلب حلاوة الإيمان، فيتلذذ العبد بطاعة الله تعالى وبذكره، ويسكن هذا الحب قلبه فلا يكاد يفارقه، كما عبر عن ذلك أحد المحبين إذ يقول:
ساكن في القلب يعمـره ** لست أنسـاه فأذكـــره
غاب عن سمعي وعن بصري ** فسويدا القلب تبصره
إن يصلني كنت في دعة ** أو جفاني ما أغيـــره
فهو مـولاي أذل لـه ** وكما أرجوه أحـــذره
ويملأ كيانه حتى إن لسانه يعجز عن التعبير عنه وعن الإفصاح عما يملأ القلب وما يكنه. قال أحد الصالحين:
أما تنظر الطير المقفّص يا فـتى ** إذا ذكر الأوطان حنّ إلى المعنى
يفرج بالـتـغـريـد ما بفوائده ** فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى
كذلك أرواح المحبين يا فتى ** تهزها الأشواق للـعـالـم الأسـنـى
فهل بلغ حب الله تعالى، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب صحبه وآل بيته هذا المبلغ من قلوبنا؟ أم هنالك مسافة بين ما ندعيه وبين ما هو أمر الواقع في قلوبنا وسلوكنا وأخلاقنا وهممنا؟
إنه لا ينبغي أن يكون ثمة فاصل بين حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
محبة الآل وصية نبوية
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي” [رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي]. فهذا حب متسلسل لا انفصام له، حلقة يمسك بعضها بعضا ويقوي بعضها بعضا؛ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله تعالى، ومحبة أهل البيت من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكيف لا وقد أوصى بهم الحق عز وجل فقال: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ [الشورى، 21]، وترك صلى الله عليه وسلم أهل بيته وصية لمن بعده فقال فيما رواه الإمامان أحمد ومسلم رحمهما الله عن زيد بن الأرقم رضي الله عنه: “أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك وأخذ به كان على العهد ومن أخطأه ضل، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به. وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي”.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يضم الحسن والحسين ويقول، كما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “من أحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي في الجنة” [المعجم الصغير]. ومرة يضم الحسن والحسين، فيما روى أسامة بن زيد، ويقول: “اللهم إني أحبهما فأحبهما” [رواه البخاري رضي الله عنه].
فحبهم رضي الله عنهم اقتداء به وائتمار بأمره صلى الله عليه وسلم، القائل فيما رواه ابن عباس رضي الله عنه: “أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي” [رواه الترمذي].
رجال ونساء صدقوا في محبة الحبيب صلى الله عليه وسلم
ولقد بلغ من شدة حب الصحابة والصحابيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن المرأة الأنصارية قتل أبوها وزوجها وأخوها في غزوة أحد مع الحبيب صلى الله عليه وسلم وهي تسأل: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا هو بحمد الله كما تحبين، قالت أرونيه أرونيه حتى أنظر إليه! فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
وهذا سيدنا ثوبان رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلن شدة محبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام؛ يقول فيما روته أمنا عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إني أكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى أجيء فأنظر إليك، ولولا أني فعلت ذلك لظننت أني سأموت، ثم إني ذكرت موتي وموتك فعلمت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيئين وإن دخلتها لا أراك، فلم يرد عليه صلى الله عليه وسلم بشيء حتى نزل قوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ و
َالصَّالِحِينَ ۚ فدعاه فقرأها عليه. [المعجم الصغير].
هذه نماذج من الصحابيات والصحابة رضوان الله عليهم الذين سكن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم شغاف قلوبهم، وامتلأت بالمحبة قلوبهم وجوانحهم، فلم يصرفهم عن محبوبهم مقتل الزوج والولد والأقارب وجعلهم لا يكادون يفارقونه إلا ويشتاقون إليه من جديد، فمن متهم نفسه بالنفاق إذا فارق مجلسه كحنظله، ومن متفطرة كبدهم لوعة وحبا كثوبان، ومن باك كلما آوى إلى فراشه كخالد بن معدان، وممن لا يقر لها قرار خوفا ألا تجمعها بحبيبها الدار، فتتغنى في أسى وانكسار إذ تقول:
على محمد صلاة الأبرار
صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت صواما بكاء بالأسحار
يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
برهان المحبة
لنا أن نتساءل بعد؛ ما برهان الصدق في هذه المحبة؟ وما الطريق الموصل إليها؟ وكيف أدركت هذه القمم هذا النوال حتى استحقت تلك البشارة الغالية: مصاحبة الحبيب عند لقاء الحبيب؟
تكونين أختي قد استكملت عرى الإيمان لما اكتمل حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والآل الأطهار في صدرك، وغمر قلبك حب المؤمنين والمؤمنات حبا في الله خالصا، ما ترك مجالا للأحقاد ولا الضغائن ولا سوء الظن وإملاءات النفس الأمارة بالسوء.
طريق المحبة تخليص القلب وتصفية وعائه لتصلح المضغة ويصلح معها الجسد كله، فيخلص الوجهة لله نية وعملا وإذعانا، طاعة وامتثالا، فيلهج الوجدان واللسان: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام، 162 – 163].
وبرهان المحبة الاتباع: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ [آل عمران، 31]. اتباع الحبيب فيما بلغ عن الله تعالى؛ إتقانا للإسلام وإكمالا للإيمان وتشوفا إلى الإحسان، إذ الدين مراتب ومراقي تعلمته الأمة في ذاك المشهد النوراني الكريم.
نال ذاك الرعيل العظيم ما نال نتيجة لتلك المحبة، وأحب لما صحب ووقف على جميل الصفات وصدق التوجه، فأين نحن أختي من مصاحبة رسول الله عبر معرفة سيرته وشمائله؟ أين نحن من محبة من أحب الحبيب صلى الله عليه وسلم لنتعلم من حبهم ونرقى برقيهم؟
إن أمر المحبة موصول جيلا بعد جيل، أدرك مغزاه الصحابة لما حرصوا على محبة من أحب وصحبة من صحب، لنيل الزلفى عند الله، ففي الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال لمن جاء يسأل عن الساعة: “ومَاذَا أعْدَدْتَ لَهَا. قَالَ: لا شيءَ، إلَّا أنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسوله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ. قَالَ أنَسٌ: فَما فَرِحْنَا بشيءٍ، فَرَحَنَا بقَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ قَالَ أنَسٌ: فأنَا أُحِبُّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ معهُمْ بحُبِّي إيَّاهُمْ، وإنْ لَمْ أعْمَلْ بمِثْلِ أعْمَالِهِمْ” [البخاري].
حب هاته القمم من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب رسول الله من حب الله تعالى، وحب من أحب وصلة قلبية ورابطة قدسية لا مناص عنها لاكتمال الإيمان.
نداء أخير
هكذا نذوق حلاوة الإيمان، بذكر من ذاقوا طعم الإيمان وحلاوته، وأحبوا فارتفعوا إلى المقامات العلى عند الله عز وجل، رضي الله عنهم أجمعين وألحقنا بهم مسلمين مؤمنين مجاهدين. آمين.
ولكل مؤمنة أن تنظر “أين هي -وأنا معها بالتبع- من أمثال أم عمارة. فإن امتحنت نفسها فوجدت أنها لا تبذل في سبيل الله دعما للدعوة وفداء للحق حتى أبسط وسائل راحتها، فلتراجع الحساب، ولتدبر الحيلة لتفطم نفسها عن أنانيتها، ولتستعن بأخواتها على ذلك الفطام. أين يباع حب الله ورسوله؟ وما ثمنه؟ وما القنوات القلبية الموصلة إليه؟” [الإمام عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/13].