تستوقف المسلمين المتبصرين وصايا عظيمة، من ثنايا خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ألقاها بعرفات يوم التاسع من ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة، والمعروفة بحجة الوداع، وسميت بالوداع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ودّع بها الناس وعلّمهم أمور دينهم وأوصاهم بتبليغ من غاب عنها. تبليغ لأهل زمانه ممن لم يحضر خطبته، وتبليغ لمن بعدهم من المسلمين في كل الأزمنة والبقاع، ليسترشدوا بها ويعملوا بما تضمنته. وهي خطبة تشهد على واقعنا، وتسرد أحوالنا، وتصور بعض ما نعيشه اليوم من فرقة ونزاع وتباغض وشحناء واقتتال، وتصف لنا الخلاص من ذلك كله على ضوء كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد تضمنت الخطبة جملة من الوصايا:
– تحريم دماء المسلمين وأموالهم فيما بينهم، مشبها هذا التحريم كحرمة يوم عرفة وشهر ذي الحجة.
– تحريم الربا وبيان خطورته، وأن اللعن يصيب كل من له علاقة به من قريب أو من بعيد، لما له من آثار سلبية على الفرد والمجتمع.
– إبطال ما كان من عادات قبيحة عند العرب في الجاهلية ومنها الثأر.
– دعوة المسلمين إلى البرور بالنساء والعناية بهن وإعطائهن حقوقهن، وتذكير النساء بما عليهن من واجبات تجاه أزواجهن.
– دعوتهم إلى أن يتمسكوا في كل زمان ومكان بكتاب الله وسنه نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
– التأكيد على أخوة المسلمين ووحدتهم.
ويستوقفني هنا من الخطبة ما جاء فيها من تحريم لسفك دماء المسلمين وأموالهم فيما بينهم، وهو من أشقى البلاء الذي يعصف بالأمم ويضعف كيانها، ومن أقصى الداء الذي يذهب بقوتها وينفي وجودها، فقد ذكر ابن إسحاق: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضى على حجه، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب خطبته التي بين فيها للمسلمين أمورهم الجامعة، مما يعينهم في دينهم ودنياهم في حاضرهم ومستقبلهم، فذلك مصدر سعادتهم ومربط وفاقهم ووحدتهم، ودليل فلاحهم في الدنيا والآخرة ونضرتهم، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: “أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا؛ أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت” 1.
إنه تحريم سار ممتد لا يحده زمان، لقوله – صلى الله عليه وسلم – إلى أن تلقوا ربكم، نظرا لخطورة استحلال دماء المسلمين، وقتل بعضهم لبعض مهما كان المبرر في نظر هذا الفاعل أو ذاك، ومهما توفق هذا الفريق في اجتهاده وادعى ذاك، لأن النفس من أشرف ما خلق الله وأزكاه. وقد جعل سبحانه حرمة المسلم من حرمة الدين بل جعل المولى عز وجل حرمة المسلم عنده أعظم من حرمة الكعبة، وألحق الرسول – صلى الله عليه وسلم – الاقتتال برتبة الكفر، فعن ابن عمرَ عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “وَيلكم أو وَيحكم، لا ترجعوا بعدي كفَّارا يَضربُ بَعضُكم رِقاب بَعض” 2. وما يصدق أمر هذه الوصية إلا على نماذج من هذه الأمة وعلى ما تعيشه من اقتتال لا يراعي فيه طرف من المتقاتلين حرمة لأخيه المسلم ولا يحفظ، وإن توجهوا بالصلاة إلى قبلة واحدة، في وقت واحد ومكان واحد ولفظ واحد و”قلب واحد”، فإن ضرب بعضهم رقاب بعض، فما تمسكوا بالدين وبفرائضه إلا كما تمسك الماء بالغرابيل، ولعل المستفيد الوحيد من هذا التناحر والاقتتال هم أعداء الأمة الذين اندسوا ودسوا بيننا من المكائد والمصائب والمخططات والأكاذيب ما لا قبل لنا بدفعه، ولا طاقة لنا على رده، وكأني بخدعة “فرّق تسدْ” لا تزال عقيدة راسخة عند هؤلاء ولدى خادميهم. وهيهات أن يفلح قوم صدّقوا ادعاء أعدائهم.
وتؤكد الوصية وبإلحاح على وحدة أمر المسلمين، وأن وحدتهم في الابتعاد عن كل مسببات العداوة والتباغض والتناحر واحتقار بعضهم بعضا، ومن ذلك أكل أموالهم بغير وجه حق، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته: “أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم؛ اللهم هل بلغت؟” 3. فمن أشد أسباب العداوة استحلال الأموال وأكلها بما لا يحق، ولذلك كانت الوصية حاسمة في أمر الربا وتوابعه الخطيرة، لكن الأمر يتجاوز ذلك إلى أكل ما لا يجوز أخذه بالاستيلاء على ثورات المسلمين وخيراتهم، ونهبها بطرق مغلفة بظاهر قانوني، بل وتمكين الأعداء منها بالتحايل والنصب والرشوة وخيانة الأمانة.
وقد وصف الرسول الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- لمخاطبيه في زمانه، ولما سيعيشه المسلمون فيما بعد -وهو ما نحن عليه في أحوالنا- في ظل هذا كله دواء شافيا كافيا، فقال: “فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه” 4. إنه الاستمساك بالحبل المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، متى ما اجتمع المجتهدون عليه، وتنادوا إليه، وارتشفوا من رحيقه، أفلحوا، والله، واستنار الطريق لهم، إنه مرجع العاصي والتائه والضال والمتخبط والمغتر، كل هؤلاء لا يصلح أمرهم إلا بهذين الأصلين النيرين المنيرين. غير أنه لا سبيل إلى فهمهما والاستقاء منهما إن لم يكن هناك وحدة فهم ووحدة تصور ووحدة سلوك ووحدة منهاج وما أعزها من مطالب! ولله الأمر من قبل ومن بعد، والحمد لله رب العالمين.