إلى كل مبتلى

Cover Image for إلى كل مبتلى
نشر بتاريخ

تراني أتحسر على سُقمك وأتألم حين أسمع أنين وجعك وتَبكيك عيوني عندما أرى تنهٌّداتك وآهاتك، لا صبر لك على التحمل، ولا صبر لي على التأمل، جهلا منا بأمر ربنا وغفلة عن خبر نبينا صلى الله عليه وسلم… ألم يخبرك أيها السقيم بأنك ذو حظ عظيم لأنك في ضيافة رحمن رحيم تغشاك عنايته، و يَذْكٌرك وتنالك رحمته وتٌغْفر ذنوبك ويذلِّلٌك بين يديه لتسأله فتعطى وتطلبه فيجيب. أورد ابن عساكر في تاريخ دمشق عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: فَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْمَانَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ عَلِيلٌ، فَأَتَاهُ يَعُودُهُ، ثُمَّ قَالَ: “عَظَّمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَرَزَقَكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِكَ، وَجِسْمِكَ إِلَى مُنْتَهَى أَجَلِكَ، إِنَّ لَكَ مِنْ وَجَعِكَ خِلَالَا ثَلَاثًا: أَمَّا وَاحِدَةٌ، فَتَذْكِرَةٌ مِنْ رَبِّكَ تَذَّكَّرُ بِهَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَتَمْحِيص لِمَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَادْعُ بِمَا شِئْتَ، فَإِنَّ دُعَاءَ الْمُبْتَلَى مُجَابٌ”.

ذكِّر أيها المرض

اعتادت النفوس البشرية أن يأتيها داع إلى الله عز وجل واعظا ناصحا مستجيبا لندائه سبحانه وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ (سورة الذاريات: 55)، فكان الابتلاء هو ذاك الداعي الذي يذكرك بمولاه ومولاك، ابتلاء اراد الله عز وجل من خلاله أن يبلغك رسالة مفادها: ذكر أيها المرض عبدي المومن، فخذها بعين الرضا لتنال مبتغاك وهو رضائي حين تلقاني.

ذكر أيها المرض عبدي المومن

أنك عبد من عبادي الأبرار، لأنك حظيت بهذا الاختيار، فجعلت مرضك بابا من أبواب اللجوء والاضطرار، لتدخل منه بالذل والخضوع والافتقار، وهي العبودية التي من أجلها خلقت كل إنس وجان؛ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. فاعقل وليكن حالك هو الرضى والاستبشار.

ذكر ايها المرض عبدي المومن

أنه لولا هذا الابتلاء ما أدركت أن الدنيا فانية، وما خلقتها إلا لتكون مطية للباقية، وأن العمر محدود والمغبون من لم يغنم دقائقه بل كل ثوانيه المتبقية، وأن الأجساد مهما طالت فهي بالية، وإلى بارئها لا محالة آتية. قال عارف بالله عز وجل: “من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه”.

ذَكِّر أيها المرض عبدي المؤمن

اصبر وما صبرك أيها المبتلى إلا بالله، ورضاك بقضائه وقدره، واحتسابك له سرا وعلانية، فإذا كان هذا هو حالك أوليتك حتما ما لم يكن في الحسبان، في ذاك اليوم الذي أرَّق الولدان، وشاب له نبيك العدنان، واسْتَحييت أن أنصب لك ميزانا وأنشر لك ديوانا، جاء في مسند الشهاب عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: “إِذَا وَجَّهْتُ إِلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِي مُصِيبَةً فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ ذَلِكَ بِصَبْرٍ جَمِيلٍ، اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أَنْصِبَ لَهُ مِيزَانًا، أَوْ أَنْشُرَ لَهُ دِيوَانًا”.

ذكر أيها المرض عبدي المؤمن

لو تعلم ما في السقم لتمنيت أن يلزمك حتى تلقى الله عز وجل، فلا تجزع من عجزك عن أداء واجباتك نحوي لأنك ما تخلفت طواعية، بل حال بينك وبينها الابتلاء، وإن أجرك ثابت غير منقوص، فأحسن الظن بي فكرمي لا حد له وعطائي لا مثيل له، حسبك أن تتملق لي بدموعك وابلا صيبا على أرض ما مضى من زلاتك وما آن من ضعفك ووهنك. عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ، فَقُلْنَا: يا رَسُول اللَّه، مم تبسمت؟ قَالَ: “عجبت للمؤمن وجزعه من السقم، وَلَوْ يَعْلَمْ مَا لَهُ مِنَ السَّقَمِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ سَقِيمًا حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ”، ثُمَّ تَبَسَّمَ الثَّانِيَةَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالُوا: مِمَّا تَبَسَّمْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ” عَجِبْتُ لِمَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ يَلْتَمِسَانِ مُؤْمِنًا فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ فَلَمْ يَجِدَاهُ، فَعَرَجَا إِلَى اللَّهِ، فَقَالَا: يَا رَبِّ، إِنَّ عَبْدَكَ فُلَانٌ كُنَّا نَكْتُبُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّكَ حَبَسْتَهُ فِي حِبَالَتِكَ، يَعْنِي الْمَرَضَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا: اكْتُبَا لِعَبْدِي مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَا تَنْقُصَاهُ شَيْئًا، فَلَهُ أَجْرُ مَا عَمِلَ وَعَلَيَّ أَجْرُ مَا حَبَسْتُهُ”. َرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.

وأخيرا؛ أبشر أيها المبتلى بالشهادة الكبرى وإن لم تلقها تحت ظلال السيوف، فقد نلتها مِنَّة وعطاءً منه سبحانه وتعالى وأنت أعز الضيوف، وكفى بك قدرا أنه إكراما لك جعلت مفتاح رحمة لمن سواك. جاء في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله، أَخْبَرَنِي كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ عَادَ مَرِيضًا، خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ، فَإِذَا جَلَسَ اسْتَنْقَعَ فِيهَا”.

عن علي بن أبي طالب قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كَانَ فِي خُرَافَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ كَانَ مُمْسِيًا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ” مسند الإمام أحمد.

فاللهم أَخْرِجْنِا مِنْ ذُنُوبِنا، وَأَسْكِنِّا جَنَّةَ عَدْنٍ، وارزقنا معية المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودوام النظر إلى وجهك الكريم.