توطئة
ما فتئ العاملون في خط الدعوة يتلاومون أو يبثون الشكوى من تواتر صور التردي والنكوص والتسرب التي تطبع الجهود الحثيثة لمؤسسات الدعوة المختلفة. ولعل الشاهد الأصدق على ذلك ما يعتري ״خطبة الجمعة״ من ضمور مس طاقتها التوجيهية وأَثَرَها الوَازِع فأضعف محوريتها الدعوية ونال من هُويتَيْها؛ الزمانية ۔وهي خطبة عيد۔ والمكانية ۔وهي التي تتلى على منبر رسول الله۔ إلى الحد الذي عظمت معه الخشية من تحول خطب الجمعة إلى مسلسل من الفرص الضائعة والعروض الصوتية المُنبَتّةِ المقطوعة عن جمهورها المؤمن. وإننا لو رددنا الأمر لصنائع الاستبداد ومكره الدائب لما جانبنا بعض الصواب. لكننا لو فعلنا فسنغفل جوانب أكثر أهمية من هذا الصواب؛ وهي تلك المتصلة بفهمنا ۔نحن رجال الدعوة۔ لحقيقة المهمة في ذاتها ومنزلة وضعها؛ هل نضعها موضع نصوص تحبك وتسجع؟ أو نقيمها مقام ״الفعل״ الذي يؤتى فتعد له عدته وتعالج عوائقه؟ هل تكون خطبة الجمعة او الموعظة الرقيقة أو لحظة اللقاء القلبي الصافي غاية تدرك؟ أو تكون ثلاثتها محطات دالة يحتويها فعل الدعوة الماضي وَئِيداً؟
1) الدعوة وفِراق المِنبرِيّة
لا يحسن بالمشتغلين في حقل الدعوة أن يشيحوا بأفهامهم عن الأمر الرباني الذي عرف به المولى سبحانه الدعوة ساعة أمر نبيه أن قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، فجعلها سَبيلاً تخاض مسالكه وتقتحم دروبه وليس كلمة يلقى بها على سبيل ״ألق عصاك״. ولعل هذا التوجيه السُّنِّيَّ قد اعتراه من الترك والتعطيل ما اعتراه، حتى صارت الدعوة خطبا ودروسا ومواعظ يبذل في صوغها الجهد المضني ثم لا يكتب لها عمر ولا أثر في الناس؛ وكأنها تلقى من على المنابر صوب حتفها كما تلقى الأجساد من شاهق. كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعظ بلسانه دون تكلف ثم يتتبع مواقع ذلك في قلوب أصحابه وأثرها في أفعالهم وثمارها في بيوتهم ويصوب الأفهام إزاءها بالمصاحبة الدائبة والزيارة والسؤال، فيتأنى ويتصبر حتى تثمر الموعظة عزمات، وتعترض العزماتِ عقباتٌ هي من صميم سنن الله، فيحرض على اقتحامها والتصبر عليها حتى تلين فيحصل التوفيق وتستبين السبيل. كل هذا والنبي الكريم بين أصحابه وفيهم أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني لا يلازم منبره ولا يبث الأمر على وجه التكليف من عَلٍ، بل على صهوة المشاركة وبساط التقاسم.
وما من خطيب أو داعية فارق منبره بهذا الفهم وتلك النية إلا واستكمل حظه من شرف الدعوة واستوفى أهليته لفعل التغيير؛ حتى يصير ذاك المؤمن القائم لله الشاهد بالقسط، المنْدَسَّ وسط السواد الأعظم لأمته، يحب الناس ويحبونه، يؤُمُّهم في الصلاة ويتخولهم بالموعظة ويمضي في شؤونهم، يغشى بيوتهم ويسأل عن حاجاتهم، دون أن يطمئن لحال ودون أن تَفْجَأَه العقبات أو يفت في عضده جحود الناس وأذِيَّاتُ الناس. هكذا كان أصحاب رسول الله ״دعاة فعلة، قلبا مع الله، لسانا يلهج بالذكر والدعاء، ويدا تصنع في الطين وفي البيئة الملوثة تصلحها، وفي المهمات الشاقة الدائبة اليومية للجهاد״.
2) مفرداتُ الدعوةِ عقباتُها
ها قد ترك المؤمن القائم أعواد منبره وخاض مع العامة ذاك ״السبيل״ الشريف المعلوم. وإنه لخوض موعود بالتوفيق والتمكين لو استذكر هذا المؤمن أن علمه وسبقه وإمامته في تابعيه عقبة وأي عقبة! وأنه لو شاهد فيها منن الله تعالى عليه واصطفاءه إياه ۔على ما فيه من سابق عيوب النفس والعمل۔ لحصل له كمال التوفيق. ثم إنه لو استحضر أن هؤلاء المجتمعين حوله هم عيال الله ومادة الإسلام التي لا تزال تئن من وطأة الفتن القرونية المنحدرة صوبها من شواهق الجبر والعض، فصاغت أمزجتها واستنفرت عصبياتها وحركت أنانياتها، لأدرك أن مهمة تربيتهم هي عين المكابدة وعين المصابرة اللتين أفادهما قوله تعالى وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك وهو يهيئنا ۔سبحانه۔ لتخطي العقبة. ومن أشد العقبات وأعتاها في نفس المؤمن القائم أن يذهب مع الذاهبين إلى الظن بأن المجتمعين على دعوته ما جاء بهم إليه وأصبرهم عليه إلا تعطشهم لعلمه حلالا وحراما وطربهم لتلاوته وإعجابهم بمحفوظاته، فيكف عن التبسم تورعا ويتقلل من حديث القلوب اشتغالا بالأمر والنهي ويستخف بالتبسم وأثره والضمة الحانية ودفئها، فيطلق اليد التي كان يأخذ بها ويترك السؤال الذي كان يتخوله حينا وحينا، فيقع الجفاء وتتكدر القلوب وتوشك الدعوة أن تفض موائدها. خطر ماحق بالدعوة إن كفت عن كونها حديث قلب وتواصل قلوب. وعقبة عنيدة تلك الساعة التي تستحيل فيها لقاءات الدعوة بفعل الإيلاف والغفلة كيانات بشرية منفعية؛ تتأمر فيها النفوس فتستغلظ وتستوي على سوقها ما لم يكن المؤمن الداعية القائم مدركا حقيقة العقبة، مهيئا لها شروط الاقتحام الفردي والجماعي.
3) المهمات الصغرى والعقبات العظمى
على الركب السالك سبيل الدعوة الكأداء تتَكثَّر المهمات وتتشابك الأشغال والأدوار وتختلط الألقاب؛ فتعظم حينا وتبسط آخر، مُنشِئةً ضربا من تراتبية القيادة، فيتقدم زيد ويشف بمهامه الطليعية، فيما يتخلف عمرو بمهامه الجانبية غير ذات بال. والمؤمن الكيس لا يأمن نفسه واختلاجاتها في مواقف من هذا القبيل؛ فنفس المؤمن تستمرئ الأعمال العظام وتهفو إليها وتسارع كما تهفو وتسارع لأول الصفوف في الصلاة. أما إن وكلت إليه صغار المهمات، تلك التي تنجز خلف الستر أو بالتفويض المسلسل فلا يشهد بلاءه فيها المؤمنون ولا يمس صنيعه فيها عامة الناس، فأوعر بها من عقبة تمثل أمام النفس فتنال من كبريائها واعتدادها بشرف المهمة الدعوية وشرف السبيل. فهل يطيع المؤمن ويقتحم عقبة نفسه وعقبة تلك البنان التي تشير وتحتقر “هوان” المهمة؟ ثم هل يأمن نفسه أخرى وقد وكلت إليه المهمات العظيمة ووضع موضع الرأس لسائر الجسد؟ هل يقتحم هذه العقبة بذات اليقين والقوة والأمانة التي فعل في الصغريات؟
أفلح إن اقتحم.
4) النداء والاستجابة
وأَذّنْ في الناس… يأتُوكَ
قال رَجُلانِ من الّذين يخافون أَنعمَ الله عليهما ادخُلوا عليهم البابَ فإذا دخلتموهُ فإنكم غالبون.
آيتان كريمتان بليغتان ترتبان أمامك أخي شريك الدعوة ۔الصادق في دعوته الواثق فيها المستيقن من تأييد مولاه ۔ فعلين هما ملاك الأمر كله؛ حيث يثوي الشرط الذاتي في امتلاك ناصية المبادأة والهجوم الرحيم الحكيم على قلوب الناس وأبوابهم عرضا وإحاطة وإلحاحا لطيفا حتى يسمعوا منك كلام الله فيأتوك، وحتى تطمئن لك قلوبهم فيشرعوا لك أبواب كل شيء. وإن تمت لك الاستجابة بعد اقتحام فعالج عقبة النفس وهي تفرح بالتمكين حتى لا تفسد العمل. ثم إن بدت الاستجابة على طرف من الزمان قصي فعالج عقبة النفس وقد استبطأت نصر الله وتمكينه حتى لا تفسد العمل.
ختم وتركيب
ربما تكون قد وفقت هذا الفقرات في استبانة سبيل الدعوة وفعل الدعوة، من حيث أصالته النبوية، من حيث حركيته ومرونته، ومن حيث اقتحاميته وكَبَدِيّتُه التي تستغرق عمر العامل فيه وتستغرق الجهات كلها بحثا وطرقا للأبواب وانتهازا للفرص. وربما نطوي صحاف البلاغات والفصاحات الدعوية والطرب الدعوي والزينة الدعوية الإعلامية التي حفرت هواتها عميقا بين صاحب الدعوة في عليائه وجمهور المؤمنين القاعد أسفل المنابر وحيدا.