الأخفياء.. رجال الله الذين مَرُّوا من هنا

Cover Image for الأخفياء.. رجال الله الذين مَرُّوا من هنا
نشر بتاريخ

في زمن الشُّهرة و”البوز” و”اللايكات”، وفي عصر الأنا والفردانية وتعاظم حبّ الذات، ما يزال في الناس من يستوي عندهم “الموقع” وغيره، أأمام الكاميرات أم خلفها كانوا، وسواء عُرفوا بشخوصهم أم لا. الأصل عندهم “الفعل” وأثره في السير، أما “صورته” التي تستوجب متكلمين ومتحدثين وناطقين ومسؤولين فترتيب إجرائي إداري، يستوجبه تنظيم العمل.
ليسوا حريصين على أن تَتداول أسماءهم الألسن، ولا أن تَسكن صورهم الشّاشات، ولا أن يتصدّروا المنصّات. أخفياء؛ لا تشدّهم الأنظار ولا تستهويهم “بؤرة الضوء”، بل ندبوا أنفسهم للعمل الثّقيل في صمت والبناء الصّلب في هدوء، وكرّسوا حياتهم لمشروع أمّتهم ونهضة أوطانهم وتحرّر شعوبهم. أناس وهبوا أنفسهم لقضاياهم، معنيون أساسا بما يقدمون لـ”الجماعة”، ومستعدون أن يفنوا في ذاتها، ويذوبوا في مجموعها. توَارَوْا حبّا وكرامة إلى الظل مادامت مهامهم تتطلب ذلك، وركّزوا على التأسيس لـ”المشهد” الذي يشدّ الأسماع ويأسر الأنظار.
ونعم، حتى أولئك الذين ساقتهم الأقدار إلى الأمام، وألزمتهم “حاجة الجماعة” أن يكونوا في المقدّمة؛ فيُعبّروا عنها ويتحدّثوا باسمها ويعرضوا حاجتها ويدافعوا عن مطالبها ويبسطوا مشروعها، تعترضهم بدورهم تحدّيات ضخمة وجبّارة -وهي للأمانة أعقد وأصعب على النفس- فهم أمام تحدّي الشّهرة وإغوائها والسّمعة وإغرائها، وهم ملزمون بالأمانة الشديدة في التعبير عمّن وضعوهم في صدارة المشهد، وهم معنيون بالتّحفُّظ في سلوكهم العام بما يتناسب مع “هوية” من يمثّلونهم. تحدّيات جمّة تعترض طريقهم ومقصلة “الرّياء” ومخاطره وعقوباته الدينية فوق رؤوسهم، ومستلزمات “الإخلاص” الذي يستوجب التفتيش في القلب في كل حين، و”الإحسان” الذي يتطلب الإتقان في كل عمل، تُحيط بهم من كل جانب. نعم ندرك كل ذلك، ويدركونه، ونقدّره، ونشفق على كل “متصدّر”، سائلين له من المولى الكريم السّداد والرّشاد، ولكن، ومادامت الأمة تدرك صنيع هؤلاء وتقدّره وتدعو لأصحابه، فمن الواجب أيضا الالتفات إلى أولئك “الأخفياء”.
مناسبة هذا الكلام، ونحن مازلنا في أجواء العدوان الصهيوني الوحشي على شعبنا الفلسطيني الأبي، إعلان حركة حماس استشهاد عدد من قادتها العسكريين على رأسهم أحمد الغندور قائد لواء الشمال في كتائب القسّام. هذا المجاهد المغوار الذي لم يكن معروفا كثيرا قيد حياته، لم تجتذبه “الميكروفونات” ليقول أنا الذي خطّطت وفعلت، وهنا أوجعت وضربت، وهنالك شاركت وأثخنت. لم يكن هذا الأمر يعنيه -مع ما يجرّه من حظوة تتشوّف لها الكثير من النفوس- ما دام لا يدخل في “اختصاصه” و”مهامه”.
الغندور، هذا الذي كان خلْف الصّورة، وهو أحد صُنّاعها، لم يتخلّ عن “المقدمة” فحسب، بل إنه جاهد بنفسه وماله وزهرة شبابه وسنين عمره (منها 6 سنوات في سجون الاحتلال، و5 سنوات في سجون السلطة!)، وكان أحد ركائز صعود المقاومة الإسلامية منذ عملياتها الأولى عام 1984 ثم انتفاضة الأقصى وما بعدها من جولات، ونُسب إليه إعداد وتجهيز مئات الاستشهاديين والمقاومين على مدار هذه العقود، وكان مطاردا من العدو مُهدّدا بالقتل (محاولتين في 2002 و2012)، بل تعدّى كل ذلك إلى أن قدّم زوجته وابنته (في معركة “الجرف الصا-مد” 2014) واثنين من أبنائه (في “طوفان الأقصى” 2023) شهداء كرماء في مسار فلسطين الطويل.
ارتقى مع الغندور أربعة قياديين آخرين من القسّام لوحدها، وغيرهم العشرات إن لم يكن المئات من هذا الفصيل الأشم وباقي الفصائل؛ قدّموا – في صفقة رابحة مع الله – الروح فداء للدين والوطن، ما ضرّهم ألا أعرفهم وتعرفهم وتعرفينهم ونعرفهم مادام “ربّ عمر” وربّنا يعرفهم.
في معركة “سيـف القدس” التي شنها كيان الاحتلال على القطاع سنة 2021، كان من بين الش-هداء الكبار رجل آخر من طينة خاصّة، ومثال آخر على هؤلاء الأخفياء الأنقياء الذين اشتغلوا دون ضوضاء ومضوا في هدوء، هو البطل الدكتور المهندس جمال الز-بدة. هذا الذي تخلى عن “حظوة” راقية جذّابة اكتسبها بتفوقه العلمي والأكاديمي، إذ ترك التدريس في الجامعات الأمريكية وتخلى عن عضويته في وكالة الناسا، ليرجع هو وعائلته من أجل المساهمة في خدمة وطنه وليساهم في تطوير سلاح المقاومة. وفعلا فقد أكمل المسير الذي كان قد دشّنه عدد من الأفذاذ كمهندس الظل نضال فرحات ومحمد الزواري (الخفيّ هو الآخر في تونس القيروان قبل أن يتعرف الناس على صنيعه العظيم بعد أن اغتاله الموساد في بلده القصيّ)، ووضع بصمات جديدة ومتقدمة في تصنيع وتطوير السلاح العسكري والصواريخ والطائرات المُسيّرة وفي مقدمتها “مُسيّرات الزواري”. قبل أن يقدّم، هو وابنه الشهيد أسامة، الروح نقيةً مطمئنة إلى بارئها سبحانه.
مثل هؤلاء الأطهار “الذين قسّموا جسومهم في جسوم الناس، وخلّفوا آثارا عميقة تدل على غيرهم، ولكنها لا تدل عليهم” بحسب تعبير الكاتب وليد سيف، مثل هؤلاء، المئات والآلاف من “المتوارين إلى الظل”؛ يُدرّبون الرجال، ويصقلون الإرادة، ويحفرون الأنفاق، ويصنعون السّلاح، ويطورون البرامج التقنية، ويحتضنون الناس المكلومين ويخالطونهم، ويبثون الأمل ويخفّفون الألم، ويقدّمون بكل حبّ أرواحهم فداء للقدس والأقصى وفلسطين… هؤلاء وغيرهم الكثير الكثير، بهم نُنْصر وتُنْصر القضية الفلسطينية، وعليهم، بعد الله، المُعتمد، فهم الأساس المتين لهذا الصّرح العظيم الذي يُبهر العالم.
هؤلاء الأخفياء، الأطهار المخلصون، الذين نظَروا إلى “العمل” ولم يقفوا طويلا عند “الموقع”، فكان قدَرهم أن “يتواروا إلى الظل” وأن يكونوا في “الخلف”، يَكِدّون بحبّ ويجتهدون بتفان ويعملون بإخلاص. عينهم على “الكسب الجماعي” لا “المجد الشخصي”. هؤلاء الأخفياء الأنقياء، ينبغي أن تُلتمس بركتهم ويُرتجى دعاؤهم ويُرى سرّهم ويُذكر صنيعهم. هؤلاء الأخفياء الأتقياء، هم بحقّ رجال الله الذين مرّوا من هنا، فتركوا الأثر بعد أن أنهوا المسير.