مقدمات
( 1 )
مرت سنتان ونيف على انطلاق أول شرارة لما بات يسمى ب”الربيع العربي” الذي هزت رياحه العاتية أركان أنظمة حاكمة في العالم العربي وما يزال يهدد أخرى بالزوال. وإن كانت الصورة المكتملة لمرحلة ما بعد تلك الانتفاضات لم تتحدد بشكل حاسم، بعدُ، إلّا أنه يمكن الجزم أن تحولات عميقة بدأت تطرأ على المشهد العام والسياسي في بلدان الربيع العربي. ولعل أبرز تغيير أثار اهتمام المحللين والمراقبين هو انتقال الإسلاميين، في هذه البلدان، من وضع المعارضة المضطهدة والمهمشة إلى وضع أحزاب حاكمة. فقد مكّنها تَصدُّر نتائج الانتخابات، بعد انهيار الأنظمة التي كانت تعاديها، من هذا الانتقال الفُجائي والمتوقع في نفس الآن.
وقد تناسلت منذ فترة قريبة العديد من الكتابات كما عقدت مؤتمرات ونظمت ندوات، تمحورت كلها حول موضوع التحديات التي تنتظر الإسلاميين وتواجه تجربتهم الفتية في سدة الحكم، سواء تعلق الأمر بالتحديات العاجلة والآنية أو المستقبلية. وقد أفرز هذا النقاش، الذي ما زال في طوره الأول، جملة من الآراء والتقديرات حول طبيعة وحجم التحديات التي يَفرِضُ الواقع القائم على الإسلاميين التصدي لها والقيام بواجب مجابهتها لإرساء نمط حكم عادل ونظام اجتماعي يتناغم في بنيته وعلاقاته وقيمه مع مرتكزات الدين الإسلامي، المرجع الفكري والعملي الأساس للحركات الإسلامية بمختلف أصنافها والهوية الحقيقية للمجتمع العربي .
ورغم الأهمية العلمية والعملية لمثل هذا النقاش إلّا أنه يجدر التنبيه إلى ما أكد عليه كثير من المحللين المُنْصفين من أهمية عدم التسرع في تقييم تجربة الإسلاميين في الحكم وضرورة إمهالها فرصة زمنية ملائمة لتتضح الصورة ويبنى التقييم على أُسس واقعية وأكثر مصداقية.
( 2 )
يجب التأكيد بدءاً أن ما يواجه الإسلاميين كلهم، سواء من تقلد الحكم أو من هم في قاعة الإعداد، ليست تحديات طبيعية فقط بل تقوم دون ما يريدون إنجازه عقبات كَؤُود هي نِتاج واقع مريض تدرج في انهياره المادي والمعنوي عن النموذج النبوي عبر مئات السنين، ثم تدخلت عوامل خارجية لتُسرّع وثيرة هذا الانحدار. لِذا فإن التطرق لهذا الموضوع لا يمكن أن يتم إلّا بنظرة استراتيجية عميقة بعيدا عن التناول التجزيئي أو الضجيج الإعلامي المبني على تنافر المصالح بل تصارعها.
لقد أدت سُرعة انهيار أنظمة متجبرة وفاسدة، في تونس ومصر خاصة، إلى وقوف الإسلاميين، الواصلين للحكم، وجها لوجه أمام جبال من المشاكل والتحديات اليومية التي استغرقت جهودهم واستنزفت إمكاناتهم وأدخلتهم في بوثقة لا يستطيعون في خِضمّها التقاط الأنفاس. يضاف إلى هذا مناخ من المخططات المتربصة والمُعادية مصدرها الخصوم السياسيون وبقايا الأنظمة المنهارة والمستفيدين من فسادها وقوى خارجية مختلفة المشارب، عربية وأجنبية، متوحدة حول هدف إفشال التجربة. فهل ما يواجهه الإسلاميون في هذه التجارب القائمة هي التحديات الحقيقية والعوائق الفعلية التي يُطلب إليهم التصدي لها؟
لا يمكن إنكار خطورة المرحلة الانتقالية بعد كل ثورة، كما لا نستطيع التغاضي عن وعورة الطريق وسط كم هائل من المشاكل اليومية التي تمس حياة المواطن وتهدد أمنه اليومي كما تهدد شعبية ومصداقية من يَحكُم خاصة في مناخ دولي ومحلي مُعادٍ ومُتربص. فما يكابده الإسلاميون اليوم، وهم في سدة الحكم، مشاكل حقيقية وعوائق موضوعية لكنها في نفس الوقت ليست إلّا واجهات لعوائق أكبر وتحديات أخطر، عقبات أخطر من تسيير وزارة أو تدبير إدارة.
( 3 )
إن وصول الإسلاميين، في بعض بلدان الربيع العربي، إلى الحكم لم يكن فلتة أو كما يدعي البعض فرصة لن تتكرر، فهذه نظرة قاصرة للأمور. ما حصل وما زال مستمرا وسيبقى كذلك لمدة ليست بالقصيرة، هو انعطاف كبير للتاريخ وتَحوُّلٌ عميق في مجرياته في اتجاه عزة الأمة وتحررها ونهضتها، وهذا أشد ما يخشاه خصوم المسلمين وأعداؤهم. لِذا تَراهُم في عجلة من أمرهم للحيلولة دون خروج هذه التجارب الناهضة من عنق الزجاجة وإبقاؤها في وضعية “مكانك سِرْ”.
حقيقة ما ينتظر الإسلاميين، جميعهم، من عوائق ورهانات أسميتها عقبات الإرث وتحديات النموذج. فحين ينظر هؤلاء إلى الواقع القائم ينتصب أمامهم إرث ثقيل جدا هم بصدد استكشاف بعض ملامحه وكلما أوْغَلوا في تفاصيل الحكم انكشف لهم حجم الخراب وخطورة التركة التي خلفها الاستبداد على مر القرون الطويلة من تحكُّمه. أما حين يرفعون هاماتهم نحو المستقبل فتتراءى لهم تحديات عظيمة عِظَم النموذج الذي ينشدونه. فهل من المشروع أو المعقول أن ينظر الإسلاميون إلى السلطة نظرة غانمٍ فيسارعوا إلى احتكارها دون غيرهم من أبناء البلد ويغوصوا في لُجَجِ الواقع المائج وحدهم أم يجب أن يعملوا جاهدين على جمع الجهود وتوحيد الكلمة والتدرج الحكيم في تنزيل التغيير ما وَسِعهم الأمر؟
إذا تحررت السلطة من الاستبداد وسُيّجَتْ بوعي شعبي يَقِظ وإرادة جماهيرية متحفزة وقوانين عادلة وضابطة وإعلام حر ومسؤول ومؤسسات فعلية، فإنها ستتحول إلى مجال للتنافس الشريف بين الذمم الصادقة والبرامج البناءة لخدمة الوطن والأمة. وسيجد الإسلاميون وغيرهم، من شركاء الوطن، مجالا فسيحا للتنافس والتعاون تحت سقف وطن واحد يحرص الجميع عليه من الانهيار، ويَبذُل الكل قصارى جهده لخدمة شعبه في الحق. فلا مناص من أن يدرك الإسلاميون ومخالفوهم، خاصة ذوو الغيرة الوطنية منهم، أن السلطة ليست مطية لإعادة إنتاج الاستبداد، في أية صيغة كانت منطقا أو أدوات حكم، بل هي وسيلة لتحقيق السعادة للناس بصيانة كرامتهم ورعاية حقوقهم.
إن الحركات الإسلامية الحاكمة أو المشاركة في الحكم أو المرتقبة له، أشد ما تكون حاجة، الآن، لإدراك هويتها الحقيقية والتشبت بها وعدم الانزياح عن مقاصدها الأصيلة التي أُنشأت لأجل تحقيقها، بفعل إكراهات التدبير اليومي لهُموم الحكم. فهي حركات تربوية تجديدية حضارية شاملة وسط الأمة، هَمُّها ـ الأول والأساس ـ إخراج الناس من دائرة الفتنة والجاهلية ليعبدوا الله عز وجل حق عبادته في مجتمع العدل والأخوة الجامعة. أما تدبير الشأن العام فليس إلا واجهة واحدة، لكنها مهمة، من واجهات متعددة لعملها وفعلها في الواقع البشري.
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].