في ذكرى رحيل الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين أفاض الله عليه من رحماته وأنزله الفردوس من جناته، تبرز الحاجة ملحة إلى أن يبحث الدارس في مناح متعددة من شخصيته الفذة، ولعل من أهم تلك المناحي التي تفرض نفسها منذ الوهلة الأولى عنايته الفائقة بالعلم اجتهادا في الطلب والتحصيل، واجتهادا في تجديد الفهم لمعنى العلم ومراميه وغاياته، ثم اهتماما وتهمما بقضية التعليم والتربية والتكوين. وإن المتأمل للتاريخ العلمي لشخصية الأستاذ عبد السلام ياسين يجده مطبوعا بخاصية أساسية جوهرها الهمة العالية في طلب العلم سواء على مستوى تحصيله أو الاجتهاد فيه تنظيرا وتأليفا وحركة وبناءً:
همة الطلب
كان لنشأته بالبادية موطن الفطرة إذاك أثر بالغ بعد سابق علم الله عز وجل في بناء الاستعدادات الذاتية لديه للتلقي العلمي 1 والنهل من مناهله الصافية الرقراقة، فقد حفظ القرآن الكريم في مدرسة كان يشرف عليها العلامة محمد المختار السوسي ومع القرآن رضع لبان العربية الفصيحة ونبغ في قرض الشعر فيها، وجمع إلى علم القرآن علوم الحديث والفقه والأصول وعلوم الآلة بمختلف أنواعها نحوا وبلاغة، ثم انفتح على الثقافة العالمية من بابها الواسع فأقبل بشغف على تعلم اللغات الأجنبية فأتقن منها كتابة وشفاهة ما شاء الله له أن يتقن، وكان حافزه في ذلك ما رآه من تخلف المناهج التدريسية في المعاهد الدينية ومن رغبته الجامحة في التعرف على عوالم الثقافة المختلفة وهو ما مكنه من الاطلاع على فلسفات القوم وأفكار المنظرين وثقافات الغرب بلغة أهلها من غير واسطة سمحت له أن يضبط سياقاتها التاريخية ومرجعياتها الفكرية من غير تحريفات المترجمين وتغييرات المؤولين وهو ما سيكون له أثر كبير في مناقشة المغربين من أهل جلدتنا.
سيتقوى هذا المسار العلمي بولوج الأستاذ عبد السلام ياسين مجال الاشتغال التربوي معلما ومكونا ومشرفا ومديرا تربويا في مختلف أسلاك وإدارات التعليم، إذ كانت المهام التربوية المتعددة التي شغلها فرصة للاستزادة من علوم التربية والتخطيط والتدبير سيكون لها طابعها الخاص في بناء شخصية المعلم المتقن، والمدير المحنك، والخبير التربوي المتمكن، والإداري المدبر الصارم. وهو ما سيجعله خبيرا بواقع الإدارة المغربية ودهاليز السياسات التعليمية.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين ملخصا هذا الجهد المعرفي العلمي الطويل:
(أنا عبد الله المذنب ابن فلاح بربري نشأ في القلة والحرمان المادي، ثم قرأت القرآن فهو كان بحمد الله ولا يزال قراءتي الحقيقية الوحيدة. ودرست تلميذاً لعلمائنا في المعهد الديني. ولم ألبث أن طلبتُ معرفة أوسع من النقول التي تعيش عليها معاهدنا الدينية. فدخلت إلى الثقافة الأجنبية من المدخل الصعب، من المجهود الفردي، حتى نلت منها ما جعل أقراني يضعونني موضع الشاب النابغ. وجاء الاستقلال فوجدني في منصب مسؤولية إقليمية في التعليم. فعاصرت الأقدمين يافعاً، وعاصرت نشأة الفساد الإداري في مراحله كلها منذ الاستقلال. فإن تحدثت عن العلماء فعن معرفة ومخالطة ومشاركة، وإن تحدثت عن المغرب وشبابه ورجاله وإدارته فعن خبرة سبع وعشرين سنة كنت فيها معلماً، وإدارياً، وخبيراً) 2.
وانظر كيف لم تمنع عوادي الزمان من ضيق ذات اليد واشتداد الفاقة والحاجة وتوالي الابتلاء بشتى الأمراض البدنية ابن الفلاح القادم من البادية وبمجهود ذاتي من التلقي الدؤوب للعلوم قديمها وحديثها ومن الترقي في مدارج الرقي الاجتماعي، فجمعت للأستاذ المرشد بهذا التكوين العلمي المتكامل الرصين والخبرة العملية والتجربة المعيشية لمغرب ما بعد الاستقلال.
تلزم الإشارة هنا إلى أن هذه الهمة العالية في طلب العلم والاجتهاد في تحصيله صاحبتها همة في السلوك التربوي والفعل الحركي، فكان العلم عنده إماما للعمل وقائدا إليه وسبيلا إلى الدعوة إلى الله عز وجل، هذا ولم يكن المسار العلمي معزولا عنده عن المسار التربوي ترقيا في مدارج الإيمان والإحسان أو المسار الجهادي تربية وتنظيما ومدافعة وفعلا في الواقع السياسي والاجتماعي.
جهاد التنظير
استعداد فطري ذاتي هبة وتفضلا من الكريم جل وعلا، وتوقد عزيمة، وعلو همة، عوامل كان من نتاجها التمكن الرصين من العلوم الدينية الشرعية، والدراية السامقة بعلوم اللغة العربية وآدابها، والتبحر الواسع في ثقافة وفكر وفلسفة الآخر، وإتقان لغاته وألسنه، يعضد هذا كله خبرة عملية بواقع الناس وتموجاته والفاعلين المختلفين فيه، ومعايشة حثيثة لأصناف من العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، زد إلى ذاك جميعه تاريخ جهادي مليء بابتلاءات تنوء دون حملها الجبال.
اجتمعت تلكم العناصر وتداخلت لتعطينا ليس نموذج العالم الذي ملئ علما وفاض حفظا وانتهى يعيش على موائد من سبقه، يفكر بعقلهم، ويردد ما تفتقت عبقرياتهم عنه، إنما تولد لدينا نموذج للعالم المجدد المجتهد الذي قرأ كتاب الله المسطور وتأمل في كتاب العالم المنظور ليقدم فهما عن الله مجددا للدين، تترجم عن ذلك مؤلفاته وكتاباته عن “الدعوة والدولة” وعن “الإسلام غدا”، وتجديده لمعنى العلم ووظيفة العالم في “الرسالة العلمية”، واجتهاده في تسطير “منهاج نبوي” علمي عملي لحركة الفرد المؤمن مع الجماعة المجاهدة في التربية والتنظيم والحركة الزاحفة، وتنظيراته النيرة لـ”دولة القرآن” تمتح من “القرآن والنبوة” وتبشر بمقدمات “لمستقبل الإسلام” تتشوف لـ”خلافة” كانسة لـ”الملك” بأيدي “رجال قومة وإصلاح” معالجة لإشكاليات “في الاقتصاد”، من أجل بناء “جماعة” للمسلمين وتقوية لـ”رابطتها” استعدادا “لإمامة الأمة”، كما تترجم عن هذا الاجتهاد الثري “نظراته في الفقه والتاريخ”، وقراءته الجديدة لتاريخ التصوف في “الإحسان”، ولإشكاليات الحكم في “العدل”، ولقضايا المرأة في “التنوير”، و”لسنة الله” في التدافع بين الحق والباطل.
وإلى جانب التنظير العام للعمل الإسلامي ولقضاياه المختلفة، عالج الأستاذ المرشد وبنفس حواري متجدد قضايا الفكر الفلسفي المعاصر فجدد قراءة تاريخ المغرب والعالم الإسلامي في “حوار الماضي والمستقبل”، وفكك أسس “العقلانية والحداثة في “محنة العقل المسلم” و “الإسلام والحداثة”، وعرض لقضايا اللغة في “حوار مع صديق أمازيغي”، كما حاور الفلسفات المختلفة في “الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية” و”الإسلام والقومية العلمانية”، وحاور الفضلاء “الديمقراطيين” مناقشا الحدود بين “الشورى والديمقراطية”.
وكان للإبداع الأدبي الشعري حضوره أيضا في مصنفات الإمام المرشد فأخرج من شعره للتداول “الشذرات” و”القطوف” و”المنظومة الوعظية” التي عرضت لمقدمة طويلة يمكن أن تعد تنظيرا لجمالية الأدب من وجهة إسلامية جامعة بين البلاغ القرآني والبيان النبوي.
لم تكن هذه التصنيفات والمشاركات المهمة في مختلف العلوم والفنون تحليقات في بروج الأماني المعسولة القاعدة، إنما رافقها عمل جهادي كان دأبه النصح الشفيق للسلطان الحاكم من خلال رسائل بليغة شملت “الإسلام أو الطوفان”، و”رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام” و”مذكرة لمن يهمه الأمر” مع ما صاحب ذلك من سجن وحصر، ومع النصح اجتهد الإمام المرشد في جمع الأمة ولم شعث العاملين للإسلام في المغرب، ثم اجتهد في بناء حركة إسلامية راشدة حملت شعار العدل والإحسان كانت وما تزال محضنا للتربية والتعليم والجهاد لأجيال متتالية من المؤمنين والمؤمنات.
لقد كانت عصارة هذا المسار العلمي الجهادي المتميز على مستوى البناء العلمي الفكري للأمة التأسيس لنظرية متكاملة في التغيير دعوة وتربية وبناء وتنظيما وفاعلية حركية أثمرت لنا علما ارتاد آفاق اكتشاف المنهاج النبوي الذي جدد الفهم لمعنى العلم ومعنى الجهاد في زمن الفتنة.